مصر في الذكرى الـ 11 للإطاحة بالجماعة الإرهابيّة!
} د. محمد سيّد أحمد
مرت علينا هذا الأسبوع ذكرى انتفاضة الشعب المصري في 30 يونيو/ حزيران 2013 ضدّ جماعة الإخوان الإرهابية، التي سرقت انتفاضة الشعب المصري في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 ضدّ حكم الرئيس حسني مبارك الذي استمرّ ثلاثين عاماً عانت خلالها مصر الكثير على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وعلى الرغم من محاولات الإصلاح الاقتصادي التي استمرّت لما يقرب العقدين من الزمان إلا أنها فشلت في تحقيق تنمية حقيقيّة، وعلى الرغم من مقاومة الرئيس مبارك في البداية للضغوط الدولية التي سعت لفرض روشتة صندوق النقد الدولي، إلا أنه انصاع لها في النهاية وظلّ لمدة عشرين عاماً ينفذ الأجندة بحذافيرها، ولم تجنِ مصر في النهاية إلا المزيد من الفقر والديون…
وعندما خرج الشعب ضدّ الرئيس مبارك وحكومته، كانت القوى الخارجية جاهزة لإشعال النيران وإشاعة الفوضى، ونجحت المؤامرة الخارجية في فرض جماعة الإخوان الإرهابية على المشهد المصري، وصعد محمد مرسي لسدة الحكم، وأصبحت مصر أسيرة لدى مكتب الإرشاد بالمقطم، لكن القوى الوطنية ومعها جموع الشعب المصري رفضت الانصياع لحكم الجماعة الإرهابية، وخرجت مطالبة برحيلهم. وهنا تحرك قائد الجيش واستجاب لنداء الشعب، وتمّت الإطاحة بالجماعة الإرهابية من سدة الحكم، بعد أن تدهورت الأوضاع على كافة المستويات.
وبذلت مصر جهوداً جبارة وضخمة على مدار السنوات الـ 11 الأخيرة، أولاً لاستعادة الأمن والأمان والاستقرار، وبالطبع كانت هناك معركة شرسة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، فعلى المستوى الداخلي تمكنت الدولة المصرية من الانتصار على الفوضى التي سادت بين الانتفاضتين، وعاد الأمن والأمان لربوع الوطن، وتمكّن الجيش والشرطة من القضاء على الإرهاب في معركة طويلة استمرت لسنوات على أرض سيناء، ومع تحقيق الأمن والأمان والاستقرار بدأت مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة التي ترهّلت ونجحت بالفعل الدولة في استعادة هيبتها المفقودة. وبالطبع كانت المعركة الخارجية أكثر شراسة في عالم يموج بتحوّلات إقليمية ودولية كبيرة، حيث استطاعت مصر الإفلات من كلّ محاولات توريطها في أزمات إقليمية ودولية، خاصة مع اشتعال النيران حول الحدود المصرية العدو الصهيوني في غزة على الحدود الشرقية، والإرهاب في ليبيا على الحدود الغربية، والحرب الأهلية في السودان على الحدود الجنوبية، والصراع على الغاز في شرق المتوسط على الحدود الشماليّة، وبذلك يكون الأمن القومي المصري في خطر دائم، ورغم ذلك نجحت مصر حتى اللحظة في عدم التورّط في أيّ من الملفات المشتعلة التي تسعى القوى الاستعماريّة الغربية لجرجرة مصر إليها.
لكن رغم ما تحقق من نجاح تظلّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أحد أهمّ مؤشرات نجاح عملية التنمية، فهي المؤشر الذي يمكن أن يحقق النجاح في استمرار عمليّة الاستقرار التي تسعى لزعزعتها الجماعة الإرهابيّة بالداخل والقوى الاستعمارية بالخارج، وكان على الدولة المصريّة أن تحسم خيارها الاقتصاديّ بعد 30 يونيو 2013 وكنا ننتظر أن يكون خيارها بعيداً عن النظام الرأسمالي العالمي الفاشي المنحطّ الذي جرّبناه على مدار سنوات طويلة وفشل، وهو ذلك النظام الذي اخترع مؤسسة تتخذ صفة الدوليّة لكنها في حقيقة الأمر تعمل لصالحه، وهذه المؤسسة هي صندوق النقد الدولي، وهو المؤسّسة الماليّة الدوليّة التي تأسّست عام 1944، ثم بدأ الوجود الرسمي لها في عام 1956 عندما شاركت في عملية التأسيس 29 دولة، ووصل عدد أعضاء الصندوق اليوم 190 دولة، حيث يلعب الصندوق دوراً مركزياً في إدارة ميزان المدفوعات والأزمات المالية العالمية، وتساهم الدول في تمويل احتياطات الصندوق عبر نظام الحصص الذي يسمح للدول باقتراض المال عندما تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات وتتحدّد الحصص وفقاً لقوة الاقتصاد، حيث تشكل الولايات المتحدة الأميركية أكبر اقتصاد في العالم وتساهم بالنصيب الأكبر اليوم في الصندوق بنسبة 17,6%، ويعلن صندوق النقد الدولي في أهدافه الموضحة في بنود الاتفاقيّة أنه يعمل على تحسين جودة اقتصاديّات الدول الأعضاء عبر التمويل النقديّ، وجمع الإحصائيات والتحليلات ومراقبة اقتصاديات تلك الدول، ومطالبتها بتطبيق بعض السياسات مثل تحفيز التعاون النقدي الدولي والتجارة الدوليّة، والحفاظ على معدلات التوظيف المرتفعة، واستقرار سعر الصرف، وتحفيز النمو الاقتصاديّ، وإتاحة الموارد للدول الأعضاء في أوقات الأزمات الماليّة، وتقليص الفقر في مختلف أنحاء العالم.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هل بالفعل يقوم الصندوق بأهدافه المعلنة؟ وهل يساعد دول الجنوب على تحقيق التنمية المطلوبة للحاق بركب الدول المتقدّمة؟ والإجابة تؤكد أنه بعد الاطلاع على تجارب الدول التي اتبعت تعليمات الصندوق فإنّ أهدافه الحقيقية تسير عكس أهدافه المعلنة، فصندوق النقد الدولي يُعَدّ أحد أهمّ الأدوات الاستعمارية التي اخترعها النظام الرأسمالي العالمي بهدف إفقار شعوب العالم الثالث، فمنذ انتهاء الاستعمار العسكري التقليدي في منتصف القرن العشرين على يد حركات التحرر الوطني في دول الجنوب، والدول الاستعمارية القديمة والحديثة تحاول البحث عن آليات استعمارية جديدة وغير تقليدية، وقد تفتق ذهن الغزاة إلى استحداث آليّة استعماريّة اقتصادية جديدة وغير مباشرة وقد تمثلت هذه الآلية في صندوق النقد الدولي وهو بديل لصندوق الدين المعروف في ظل الإمبراطوريتين الاستعماريتين الانجليزية والفرنسية في القرن التاسع عشر، ولمصر تجربة مريرة مع الصندوق القديم حين استدان منه الخديوي اسماعيل وكان بداية للتدخل الأجنبي في شؤون مصر ومهد للغزو والاحتلال البريطاني في عام 1882.
أما تجربتنا مع الصندوق الجديد فبدأت مع مطلع تسعينيّات القرن العشرين وبعد عشر سنوات من حكم الرئيس مبارك، الذي صدّع رؤوس المصريين بأن «صندوق النقد الدولي يحاول الضغط عليه لتخفيض الجنيه 30% لكي يرفع الأسعار 60 أو 70%، وهو ما سيضرّ بأحوال الفقراء ومحدودي الدخل»، ويؤكد «أن الصندوق يريد أن يغرقنا بأي طريقة لكي يظلّ يعمل معنا دائماً من أجل إصلاحات مستمرة». ورغم هذا الاعتراف من مبارك ومقاومته له (على حدّ تعبيره) إلا أنه خضع له في النهاية، ففي سعيه للبحث عن حلّ للمشكلة الاقتصادية المتفاقمة أطلق عملية الإصلاح الاقتصادي، والتكيّف الهيكلي، ووجدنا الأداة الاستعمارية المعروفة بصندوق النقد الدولي تفرض وجودها وإرادتها وشروطها على مبارك وحكوماته المتتالية، حيث بدأت عملية تصفية وبيع القطاع العام، وفرض ضرائب متعددة على المواطن المصري الفقير، وتمّ تعويم الجنيه حيث انخفضت قيمته عدة مرات أمام الدولار، وكانت نتيجة تنفيذ مبارك لروشتة الإصلاح الاقتصادي المفروضة من الصندوق مزيداً من الديون، ومزيداً من المعاناة لجموع المصريين، ومزيداً من الفقر، لذلك أطلق بعض المصريين على الصندوق مسمّى صندوق الفقر الدولي.
وبما أن الدولة المصرية بعد 30 يونيو 2013 لا تزال تدور في فلك النظام الرأسمالي العالمي، ولا تزال تتبع روشتة صندوق النقد الدولي، فواجبنا الوطني يحتّم علينا أن نذكّرها بأنّ كلّ تجاربنا السابقة مع الصندوق لم تحقق أيّ نجاح، بل زادت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سوءاً، وزادت نسبة الفقر والدين…
هنا لا بدّ من التذكير بأنّ الدول التي استطاعت النهوض والتقدّم سارت بعيداً عن روشتة الصندوق، فمهاتير محمد أكد على أنّ ماليزيا رفضت نصائح الصندوق وسارت عكس ما اقترحه الصندوق ورفضت الاقتراض من الخارج واعتمدت على سياسة داخلية معتمدة على الذات، والأمر نفسه الذي أكده لولا دي سيلفا في البرازيل الذي اعتمد على سياسة تقشف حيث استغنت الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء، وقال إنّ صندوق النقد لم ينجح أبداً إلا في تدمير البلدان، لذلك علينا الآن البحث عن نموذج تنمويّ بعيداً عن النظام الرأسمالي العالمي الفاشي المنحطّ وصندوقه النقدي الدولي الذي كرّس تخلفنا، حتى نتمكن من النهوض وتحقيق التقدم المنشود، اللهم بلغت اللهم فاشهد…