مقالات وآراء

سطوع نجم اليمين المتطرف في فرنسا عبور إلى مشهد سياسي غير تقليدي؟

‭}‬ يوسف ألبرت صادق*
أحرز التجمع الوطني فوزاً تاريخياً في الدورة الأولى في الإنتخابات التشريعية الفرنسية، بحيث أمّن مع حلفائه 33% من أصوات الناخبين، أيّ ما يعادل 10،6 مليون مقترع، متقدّمين بشكل لافت على الجبهة الشعبية الجديدة التي تضمّ الأحزاب اليسارية والتي حصدت أكثر من 28% من الأصوات بقليل، وعلى معسكر الرئيس ماكرون الذي حصل على 22% تقريباً من الأصوات.
تبدو هذه النتائج واعدة لمارين لوبين زعيمة التجمع الوطني (يمين متطرف) والتي إنْ تربّعت هي وحلفاؤها على عرش النصر في الدورة الثانية، قد تغيّر الصورة النمطية للحياة السياسية الفرنسية. ألم تطلب لوبين من الفرنسيين منحها الأغلبية المطلقة؟
ما هي بالتالي دلالات النصر الذي حققه التجمع الوطني؟
بادئ ذي بدء، يمكننا الجزم بأن المزاج الفرنسي بدأ يتغيّر بشكل دراماتيكي، وسط رياح عاصفة من الداخل وتحديات من الخارج، إذ حركت فيه مفردات برنامج لوبين، إبنة جان ماري لوبين، الشعور القومي لدى الفرنسيين الذين بدأوا يستفيقون من كبوتهم على حدّ قول بعض المراقبين والمحللين السياسيين وحتى العسكريين. يذكر أنّ جان ماري لوبين هو مؤسس الجبهة الوطنية التي تغيّر اسمها ليصبح في ما بعد التجمع الوطني.
النتيجة الثانية تكمن في أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون سيضطر أن يساكن رئيس الوزراء المحتمل جوردان بارديلا المنضوي في التجمع الوطني، وهو شاب يبلغ من العمر 28 عاماً ويشغل منصب رئيس التجمع الوطني منذ العام 2021. تجدر الإشارة إلى أنّ بارديلا قد وعد، في حال تبوئه منصب رئاسة الوزراء أن يكون رئيس وزراء مساكنة يحترم الدستور ووظيفة رئيس الجمهورية إنما حازماً جداً ولا يلين في ما يتعلق بمشاريع حكومته.
ستكتسي هذه المساكنة طابعاً غير اعتيادي في المشهد السياسي الفرنسي، إذا أمكن التعبير، بين رئيس جمهورية أوروبي الهوى وحكومة مناوئة للاتحاد الأوروبي، مما يُنبئ برياح قد توصف بالعاتية من التوترات بين رأسي السلطة التنفيذية، خصوصاً في ما يخص الأمور الدبلوماسية والدفاعية، بعد أن صرحت لوبين في موضوع الدفاع مثلاً أنّ رئيس الجمهورية هو قائد أعلى فخري للقوى المسلحة التي تخضع فعلياً لسلطة رئيس الوزراء.
يُذكر في هذا السياق أنّ بارديلا قد وعد أنه لن يدع أوكرانيا فريسة لـ «الإمبريالية الروسية»، لكنه لن يرسل أيّ جندي فرنسي إلى أوكرانيا. الأمر الذي لمّح الرئيس ماكرون إلى إمكانية حصوله.
يتخوّف الكثيرون من خطاب التجمع الوطني الذي يجهد في تبيان أنه يعامل الفرنسيين جميعاً على قدم المساواة طالما أنهم يحملون الجنسية الفرنسية، لكن ذلك لا يزيل هواجس الجاليات العربية والإسلامية وذوي البشرة السمراء والمثليين الذين يعتبرون أنفسهم مستهدفين جراء أدبيات الحزب العامة ولو أنّ من بين كوادر التجمع الوطني مثليين كثر على وجه المثال.
لكن في الحقيقة، وعلى أرض الواقع، ووفق التحليلات، سيشكل بارديلا حكومة وحدة، بحيث يحتاج إلى أغلبية مريحة ليستطيع تحقيق برنامجه كاملاً وهذا أمر صعب، فسيضطر إلى التعامل مع نواب ووزراء من ألوان ومشارب عدة قد لا يوافقونه الرأي في ملفات مختلفة. لكن من المؤكد أنّ فرنسا ستشهد تغييراً في العمل السياسي.
على المستوى الداخلي، إنْ دلت الإنتخابات على شيء، فهو على اشمئزاز الشارع الفرنسي من السياسات الماضية، بالإضافة إلى توق هذا الشارع إلى أنماط جديدة في العمل السياسي الذي هو أساساً لخدمة الناس وتلبية حاجاتهم وتأمين عيش رغيد لهم.
فقد تضمّن البرنامج الانتحابي للتجمع الوطني إثني عشر عنواناً كبيراً يهمّ الفرنسيين بشكل أساسي. تتمحور تلك العناوين حول الثقافة، التعليم، البيئة، المالية، الهجرة، المؤسسات، الأمور الدولية، الإسكان، القدرة الشرائية، التقاعد، الأمن والعدل إلى جانب المجتمع. دغدغت هذه المواضيع مشاعر الفرنسيين الأصليين فاقترعوا لصالح هذا التيار الذي يراه الطقم السياسي التقليدي متشدّداً، لكنه لا يطرح، إلا البديهيات ولو بشكل طنان، رنان وعنيف بحسب ما يدّعي خصومه.
يطرح التجمع الوطني ما يخصّ الأمور المالية مثلاً، استبدال الضريبة على الثروات غير المنقولة بأخرى على الثروات المالية وهذا منطقي أكثر، كما يدعو إلى إلغاء ضريبة الدخل لمن هم تحت سن الثلاثين، مما يحفز الشباب ويطلقهم. إلى ذلك، ينادي البرنامج الانتخابي بتخفيض الرسوم المفروض على الإنتاج في ما يخص المؤسسات.
أما في ما يتعلق بالإسكان، يقول البرنامج الإنتخابي للتجمع الوطني بإعداد قرض جديد بفائدة صفر للأزواج الشباب، بحيث يعمل على قروض بفائدة صفر لـ 100000 يورو للأزواج الشباب الذين يشترون المنازل. سيتحوّل القرض جزئياً إلى تبرّع مع ولادة الطفل الثالث. وبالتالي، سيتمكن الأهل الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً من سداد 40% فقط من هذا القرض عند ولادة الطفل الثالث. وهذا من شأنه أيضاً ان يحفز الفرنسيين الشباب على التزوج والإنجاب، ومن مفاعيل هذه الخطوة على المدى الطويل إعادة التوازن لى المجتمع الفرنسي الذي تصفه بعض الدراسات بأنه مجتمع هرم.
في ما يخص الأمن والعدل، يدعو حزب التجمع الوطني إلى إعادة العمل بالأحكام المؤبّدة الحقيقية وتلك الدنيا، إلغاء المنح للعائلات القاصرين من ذوي السوابق، ووضع قرينة الدفاع المشروع عن النفس لعناصر الشرطة والدرك ومنع مزدوجي الجنسية من تبوؤ مراكز استراتيجية.
وفي ما يتعلق بالشق الدولي يدعو التجمع الوطني إلى مواصلة الدعم اللوجستي والدفاعي المخصص لأوكرانيا، كما يرفض إرسال الصواريخ البعيدة المدى والعتاد العسكري الذي قد ينتج عنهما تصعيد محتمل إذا ما ضربت مباشرة مدن روسية. يريد أيضاً أن يحافظ على الردع النووي الفرنسي الذي يريده كاملاً ومستقلاً.
في موضوع المجتمع يدعو برنامج التجمع الوطني إلى مواجهة الإيديولوجيات الإسلامية. يعتبر هذا الحزب تلك الإيديولوجيات تهديداً حقيقياً لفرنسا، إلا أنه لا يضع خططاً وإجراءات عملية للتصدي لها. هذا الغموض المكتنف هذا الموضوع، إنْ دلّ على شيء، فعلى الصفة المطاطة لمصطلح الإيديولوجيات الإسلامية. فهل يعني الإيديولوجيات المتطرفة فحسب أم يشمل أيضاً الشعائر الإسلامية العادية؟ تجدر الإشارة إلى أنّ فرنسا عانت ما عانته من الفكر المتطرف الذي يسوّق له المهاجرون من المغرب العربي مثل الجندي محمد مراح الذي أطلق النار على رفاقه من سلاحه الحربي في الثكنة الى غير ذلك من اعتدتاءات ناهيك عن الحساسية التي يبديها هؤلاء المهاجرون تجاه الفرنسيين ومحاولتهم فرض آرائهم على مناطق اللجوء حيث يقيمون.
وأخيرا من بين الخطوات المعدة للتصدي للهجرة، سيعمل التجمع الوطني على تسريع ترحيل الأجانب الذين هم دون أوراق والثابتة عليهم تهم ارتكابهم جرائم وجنح وتقييد الحصول على الخدمات الإجتماعية.
تبقى العبرة في القدرة على تنفيذ مندرجات البرنامج الإنتخابي وخططه. هل سيتمكن بارديلا، إنْ حط رحاله في قصر ماتينيون، أن يحقق برنامج التجمع الوطني أو سيضطر إلى التنازل مما قد يفرمل اندفاعته. إنْ استطاع تنفيذ برمامجه سينقل حتماً فرنسا من ضفة إلى أخرى. هل يمكن ان يجمعه تقارب موضوعي مع الروس بشأن الاتحاد الاوروبي؟ هل يتقرّب أكثر من البريطانيين بعد البركسيت؟ هل تستعيد فرنسا حضورها وتمدّ جسورها إلى دول بريكس؟ ماذا سيؤول إليه وضع فرنسا في الشرق الأوسط؟ وماذا عن إيران؟ ماذا عن «إسرائيل»؟ ماذا عن العلاقة مع حلف شمال الأطلسي ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية؟ تبدو هذه الأسئلة سابقة لأوانها، إلا أنها، بنظر بعض المحللين، مشروعة لا بل ملحة لأنها ترسم الوجهة الذي قد يسلكها رئيس الوزراء العتيد جوردان بارديلا.
أما الآن فتتجه الأنظار شاخصة إلى الدور الثاني للانتخابات يوم الأحد المقبل. فهي الفيصل إذا تمكن التجمع الوطني من حصد ما تبقى من الأصوات التي قد تفتح له جنة الحكم إذا ما أمّن له مجموع المقترعين الأغلبية المطلقة، علما انّ الأطراف المقابلة قد تكتلت ضد مشروعه حيث نشهد انسحاب مرشحين لصالح آخرين في محاول لرص الصفوف وسحب البساط من تحت رجليه…

*كاتب ومحلل سياسي، خبير بالشؤون الفرنسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى