أنطون سعاده… كبر القيادة وإشراق النفسيّة الرساليّة
كان أنطون سعاده الشهيد التغييري الحقيقي في تاريخ الأمة وقد أسس مدرسة في الشهادة والفداء لإطلاق مشروع نهضوي قومي اجتماعي يتعاظم ويستمرّ…
قاسم صالح*
*عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي
الأمين العام للمؤتمر العام للأحزاب العربية
في الذكرى الخامسة والسبعين لاستشهاد أنطون سعاده المعلم والمؤسس.. وهو اليوم الأكثر تأثيراً في وجدان القوميين، لأن ما قبل 8 تموز 1949، لا يشبه ما بعده حيث تنتقل اللحظة الفاجعة والإحساس بالمرارة.. من جيل يليه جيل.
أعلن الزعيم الثورة القومية الاجتماعية الأولى نهار الأربعاء في الرابع من تموز 1949 وراح القوميون يتسابقون لتلبية الواجب وتنفيذ ما عهد به إليهم من أوامر وتعليمات، وبينما كان هذا الحدث الكبير يحاول أن يتجسّد أمراً واقعياً، كانت تبدو في الأفق بوادر غيوم تثير الشك بنيات حسني الزعيم تجاه الحزب بالرغم من استمراره في الادعاء بدعم الثورة ومؤازرة الحزب وذلك الشك كان يراود العديد من القوميين حينها.
ونعلم أن الأمين (الياس جرجي قنيزح) قد فاتح حضرة الزعيم بشكوكه وأنه قد حضّر الأوراق اللازمة التي تسهّل للزعيم المغادرة قبل فوات الأوان، حيث إن حياة الزعيم وسلامته هما الضمان لحياة النهضة واستمرارها، كما قال قنيزح.
ويأتي جواب الزعيم: المسألة يا حضرة الأمين ليست مسألة شكوك وتوقعات لأسوأ الاحتمالات تأتينا ممن يؤكدون صداقتهم للنهضة ويعدون بالوقوف إلى جانبها ومؤازرتها.. إنما المسألة الحقيقية هي أعمق بعداً وجودياً مما خطر لك، لقد فاجأني تفكيرك المستغرب بقولك إن الزعيم ضمان لحياة النهضة واستمرارها، بينما الحقيقة هي أن النهضة وحدها الضمانة لحياة الزعيم وحياة الأمة بأسرها، هي الأمل الوحيد والعمل الحقيقيّ لتحقيق سيادة الأمة وكرامتها، هل بلغك مرة أن قائداً وهو في قيادة قواته إلى ميدان القتال وساحات الدم يجعل همّه الأول المحافظة على سلامته واتخاذ الحيطة لتأمين هربه من المعركة ومن تحمُّل مسؤوليّاته؟
هل يصحّ أن يكون هاجس الزعيم التخلي عن أقدس واجباته من أجل سلامته الشخصية كأنها هي المطلب الأخير فوق كرامة الأمة وكيان النهضة بالصمود والبطولة.
بين المرارة والاعتزاز نقف في الثامن من تموز لنحيي ذكرى استشهاد سعاده، اليوم الذي شكل مفصلاً لن يمحى من الذاكرة وهو أخطر حلقات التآمر التي حاكها أعداء الأمة من يهود الداخل ويهود الخارج ولا يزالون.
في فجر الثامن من تموز تحقق فعل الجهاد والشهادة اللذان كرّسهما سعاده ليكون أمثولة للبطولة المؤيدة بصحة العقيدة، إنها القضية القومية الاجتماعية ونهضة أمة أبت إلا أن يكون لها مكان تحت الشمس، إنها حياة الأحرار الأعزاء لا عيش العبودية والذل.
وبذلك خط سعاده طريقاً يكفل إعادة حيوية الأمة التي فقدتها عبر السنين ونظم في سبيل ذلك حركة تكفل صيانة النهضة، وعمل على إقامة نظام جديد يرتكز إلى نظرة جديدة للحياة والكون والفن مستنداً إلى إرث هذه الأمة الحضاري الممتدّ في عمق الزمن ريادة ومنجزاتٍ أسّست لبدايات البشرية وليس للأمة السورية فقط.
إنّ سعاده ورغم الوقت العصيب والظروف الصعبة قد نجح في تأسيس دولة الأمة وأقام مجتمعاً ونظاماً جديدين واستطاع إرساء قواعد فلسفيّة جديدة منشئاً مجتمعاً جديداً يقوم على قواعد جديدة، وأحدث تغيراً في صفوف النهضة حيث أصبحت مركز اهتمام الشعب فأثارت إعجاب الجميع بتنظيمها.
لقد أقسم الزعيم على رفع الحيف عن أمته وإحداث تغيير حقيقيّ في تاريخها فأتى استشهاده حدثاً تغييرياً كبيراً فليس من موقف للزعيم إلا وتجلت فيه عبرة تنطق بكبر القيادة وأنفتها الخلوقة الخلاقة وأشرقت منه النفسية الرسالية المؤمنة بالفضيلة والمثل العليا التي تزخر بها الأصالة السورية عبر التاريخ وأحداثه الخطيرة سواء كانت تلك المواقف الفذة في أشد الظروف تألقاً أو في أحلكها ظلمة.
إن سعاده يظل القدوة الرائدة التي تعلَم وتهدي بالأعمال والأفعال إلى أسمى القمم وأروعها فهو استطاع أن يبعث حتى في النفوس الثقة بالنفس والوعي لحقيقة البناء والعطاء. عن أمثال سعاده قد تكلم جبران خليل جبران أحد الأدباء الطليعيين الذين سعوا الى الانعتاق من الأغلال للنهوض الواعي من المخازي حين قال (العظيم العظيم من يحول هيمنة الريح الى أنشودة بالغة العذوبة والحلاوة).
أجل هو ذا سعاده العظيم يحوّل تعاليم النهضة السورية القوميّة الاجتماعيّة ضد جميع المفاسد التي جلبت الويل على الأمة السورية الى قوة صمود وقدرة صراع وبطولة لتغيير وجه التاريخ تحقيقاً لعقيدة الحرية والواجب والنظام والقوة.
وهو يبشّر بالمناقب القومية الاجتماعية لإزالة جميع الحواجز بين أبناء الأمة الواحدة وتوحيد العقول والنفوس في عقلية أخلاقية جديدة وفي بوتقة مجتمع واحد وقضية كاملة شاملة.
إنّ فعل الفداء أمر متأصل في النفسية السورية حيث قدّم سعاده أمثولة لتكون منارة لكلّ الشرفاء والمقاومين وما قوافل الشهداء التي لم تتوقف يوماً الا دليل على فعل الصراع ومن ثم الفداء على دروب الحرية والعزة.
إننا اليوم أحوج من أيّ وقت مضى للتشبث بالتعاليم التي ائتمننا عليها سعاده المعلم ودفع حياته ثمناً لأجلها، فلنجعل من تلك التعاليم والمبادئ مشعلاً من نور ونار في وجه المتآمرين والخونة يهود الداخل والخارج لتقويض القضيّة السوريّة التي عقدنا العزم أن تكون وقفات العز غايتنا ودماؤنا فداءً لها.
ونحن نشهد الفصل الأخير من اندحار الإرهاب لا يزال دم سعاده يستصرخ الشرفاء من أبناء الأمة لطرد آخر إرهابي من الشام آخر معاقل الشرف وقبلة تحرير فلسطين والجولان واسكندرونة وأيضاً مقاومة كل المؤامرات من سايكس بيكو إلى صفقة القرن التي ولدت ميتة.
ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟!
من هذه النقطة ابتدأ أنطون سعاده عمله القومي لإنهاء معاناة أمة وصلت إلى حد الفناء، فقرّر رفع الحيف الكبير الذي ألمّ بهذه الأمة، فأعاد إنشاء الأمة منقباً وباحثاً كما يفعل العالم الباحث في طبقات الأرض المتراكمة باحثاً عن الحقيقة، فعلها أنطون سعاده وأوجد للأمة قضيتها وأعاد إليها الأمل في الحياة وأعدّ ترياق تلك الحياة التي قرّر أن تكون حياة الأحرار الأعزّاء ورفض لها استمرارها في عيش الأذلاء العبيد.
ـ خطّ للأمة طريق نهضة تكفل إعادة حيويتها التي فقدتها عبر آلاف السنين ونظّم في سبيل ذلك حركة تكفل صيانة النهضة، وعمل لإقامة نظام جديد مرتكز إلى نظرة جديدة للحياة والكون والفن مستمداً من مآثر هذه الأمة وتاريخها الزاخر في رفد الحضارة الإنسانية وأسّس بناءها وتطورها، فأعاد عبقرية السوري إلى مكانتها وأعاد الأمة إلى مركزها الطبيعي بين الأمم.
ـ أنطون سعاده كان يعلم أنه سيصطدم مع أصحاب النظرة القديمة الذين استمرأوا ضعف وهوان أمتهم واستغلوا ضعفها لبناء أمجادهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حساب الشعب، وعملوا على تضليله والتلاعب بأمانيه فاستهانوا بكرامته وسحقوا بلده وأقاموا عروشاً على مآسيه. أدرك أنطون سعاده هذه المعادلة الصعبة فقرر أن النهضة لمعتنقي فلسفتها وعقيدتها إنما تعادل وجودهم لأن العقيدة القومية الاجتماعية ليست حالة سياسية يميل أصحابها حيث هوى معتنقيها كأفراد جمعتهم مصالحهم إنما هي حركة تغييرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تغيير في بناء المجتمع وعلاقاته يبدأ من إعادة بناء الإنسان وليس الفرد، لأن الفرد تنمو لديه نوازع الوحشية ولو كان بين الجماعة وقد يستطيع جرّ الجماعة إلى التوحّش بمنطق الغلبة والشوكة، أما بناء الإنسان فهو عمليّة تدخل في مخاطبة ومعرفة ماهية الإنسانية المترفعة عن توحش الفردية، إنها النظرة الجديدة للحياة والتي تعمل على إنشاء ثقافة جامعة موحّدة أساسها التفاعل الإنساني بين أبناء الأمة وتفاعل حيوي بينهم وبين وطنهم لتحقيق الانتماء الحقيقيّ للأمة شعباً وأرضاً.
ـ نجح أنطون سعاده فأسّس دولة الأمة وأقام مجتمعاً جديداً وأقام نظاماً جديداً يستدلّ عليه من سلوك أبناء النهضة ويشار إليهم بالبنان. نعم استطاع أنطون سعاده إرساء قواعد فلسفية جديدة وأنشأ مجتمعاً جديداً يقوم على قواعد صلبة، حقاً إنه أحدث تغييراً في نفوس ونشاط الشباب ضمن صفوف النهضة وضمن محيطهم الاجتماعيّ العام، لتصبح النهضة أمل الأمة ومركز اهتمام الشعب وأثارت النهضة إعجاب الجميع بتنظيمها اللافت للنظر، أما السطحيون فقد انبهروا بهذا التنظيم واعتبروه غاية النهضة، وأغفلوا أن قوة تنظيم النهضة وفرضها ذاتها على عموم شرائح المجتمع السوري بأطيافه وألوانه إنما تكمن في النظام القومي الاجتماعي النظام الجديد والذي بحق هو إبداع سوري صميم وأصيل استطاع انطون سعاده تظهيره وتعميمه، وبذلك حقق استقلالاً للفلسفة السورية وأسس استقلالاً نفسياً وروحياً لأبناء النهضة، هذا الاستقلال أرسى قواعد استقلال حقيقي عن كل أشكال التبعيّة حيث أصبح كل عضو من أعضاء النهضة يشعر ويتمكن من حريته واستقلاله ضمن صفوف النهضة ويعمل على تعميم حالته على عموم أبناء الأمة. ظهر هذا في تصرفات أبناء النهضة وسلوكهم وعقيدتهم وشملت كل نواحي أنشطتهم وحكمت تصرفاتهم وأخلاقهم، واستعدوا لفداء نهضتهم بكل أنواع الأعمال وأهمها فداء الأمة بالدماء حيث كرّس عندهم انتماءهم الحقيقي الحر العزيز، كل ما يملكون إنما هو ملك لأمتهم، إنه حدث تغييري بكل جوانبه طال كل أبناء النهضة وكان على مقدمة صفوفهم أنطون سعاده.
ـ أنطون سعاده المؤسس والمنشئ والزعيم لو لم يكن مؤمناً بما يقوم به ومتمثلاً له في كل دقائق حياته، لحقّ للآخرين وصفه بالدكتاتور لكنه كسر تلك القاعدة بعميق إيمانه بأن ما يفعله أمر يعادل وجوده، ولأنه يعلم وحشيّة المعركة مع أصحاب النظرة التي أدت إلى ويلات الأمة، ولأن جوهر عمله هو التغيير الحقيقي لحياة أمته، لذلك أقسم كما ألزم المقبلين على صفوف النهضة أن يعطوا حق أمتهم مهما كان الثمن، سار إلى معركته واثقاً يملأه الإيمان بالحق وخاض غمار تلك الحرب غير عابئ بنتائجها عليه واثقاً أنه سينتصر حتى لو لم ير ذلك النصر، لكنه مؤمن بأبناء النهضة وبتعاملهم مع نتائج المعركة وأنها جولة لا بدّ من أن تقطف الأمة ثمارها طال الزمن أم قصر.
ـ أقسم على رفع الحيف عن أمته وإحداث تغيير حقيقي في تاريخها، فكان استشهاده حدثاً تغييرياً كبيراً، منذ نعومة أظفاره وتدرّجه لوعيه القومي حتى آخر رمق في حياته كان حالة تغييرية، لم يسبقه أحد إلى ذلك الحدث وقد أتيح له تغيير قدره بكل ثقة وقوة. قرّر مواجهة أصحاب النظرة القديمة في ساحة من أهم ساحات الصراع، لكن الوحشية الفردية للنفعيين الانتهازيين الذين يعتاشون على بؤس الأمة أبت عليهم إلا الولوغ بدم استشهاده فسارت على هدي الثامن من تموز ألوف الشباب، حيث يقف أصحاب المنافع الفردية متلمّسين مصالحهم قبل مصلحة أمتهم.
ـ إنّ الفداء أمر متأصل في نفسية أمتنا وهذه الحالة استلهمها أنطون سعاده من مآثر الأمة أعاد ألق الأمة وأصالة نفسيتها إلى الوجود، وشهداء الأمة المقاومين هم مَن راهن عليهم سعاده في نهضته ونشهد كل يوم من يدفع دمه رخيصاً في سبيل أمته، وأروع ما تقدّمه اليوم هذه الأمة أبطالها وشبابها الذين يستشهدون في فلسطين أهم ساحات الصراع. هذا هو التغيير الذي يجب أن يكون، وكان أنطون سعاده الشهيد التغييري الحقيقي في تاريخ الأمة وقد أسّس مدرسة في الشهادة والفداء لإطلاق مشروع نهضوي قومي اجتماعي يتعاظم ويستمرّ…