أنطون سعاده الاستراتيجيّ القوميّ الرؤيويّ
الفكر الاستراتيجي والنضوج المبكر لسعاده كان في تحديد الكتلة الجغرافية ذات التجانس والتكامل في الطبائع والإمكانات والأهداف والتطلعات، فسعى إلى توحيدها تحت اسم الهلال الخصيب ونجمته قبرص، حيث تبيّن اليوم أهمية تلك النظرة وعمقها الاستراتيجيّ
العميد د. أمين محمد حطيط*
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي
اعتمد الاستعمار الأجنبيّ مبدأ التجزئة والتفتيت وتقاسم المنطقة وثرواتها بعيداً عن إرادة شعوبها وخياراتهم، وساهم ضعف الدولة العثمانية التي تحوّلت إلى ما وُصف بالرجل المريض، في تشجيع الاستعمار على مدّ اليد على المنطقة حتى كانت الحرب العالمية الأولى وسقوط هذا الرجل المريض عن عرشه، وتقدّم فرنسا وبريطانيا للحلول محله في السيطرة على سورية الكبرى والعراق وتمّت القسمة بينهما بموجب معاهدة سايكس بيكو التي حدّدت حدود منطقة نفوذ كلّ منهما، ووُضعت فلسطين وشرقي الأردن والعراق في نطاق النفوذ البريطاني وجُعل لبنان وسورية من حصة فرنسا. وكرّست بالسيطرة ببدعة أدخلت إلى القانون الدولي أسميت «الانتداب» الذي هو استعمار مقنّع أو مهذّب. هذه البدعة التي أتاحت اغتصاب فلسطين لاحقاً.
في مواجهة هذا السلوك الاستعماريّ انقسم أهل المنطقة الى تيارات عدة… واحد متعاون مع الانتداب، وآخر يرفضه، وثالث رمادي همّه تجارته وأمواله، ورابع قرّر الاغتراب والهجرة إما نهائياً أو مؤقتاً وفقاً للظروف.
هنا كان أنطون سعاده رافضاً للاستعمار ومقاوماً له مقاومة أرادها في البدء سياسياً، لأنه رأى أنّ التحشيد بعد التخطيط المسبق هو السبيل إلى النجاح، وكان قراره في العام 1932 تشكيل حزب سياسي علماني يقوم على مبادئ وطنية تتجاوز التباينات الدينية والطائفية، لأنه رأى في الطائفية التي يُذكّي سعيرها المحتلّ هي داء تمنع الوحدة الوطنية وتهدر الطاقات وتشتتها وتحدث من الانقسام في الوطن ما يريح المستعمر في سيطرته على الشعب والأرض.
أما الفكر الاستراتيجي والنضوج المبكر لسعاده فقد كان في تحديد الكتلة الجغرافية ذات التجانس والتكامل في الطبائع والإمكانات والأهداف والتطلعات، فسعى إلى توحيدها تحت اسم الهلال الخصيب ونجمته قبرص، حيث تبيّن اليوم أهمية تلك النظرة وعمقها الاستراتيجيّ، ومن يحدّق يجد انّ هذا الهلال شكل مهد المقاومة المنتجة والتي حققت الانتصارات الكبرى مؤخراً.
ولأنّ العامل المعنوي والثقة بالنفس هما الركن والأساس والشرط للنجاح ليس في مواجهة العدو فقط، بل في كلّ سلوك يتطلب موقفاً ويفرض اختياراً وقراراً مهما كان صعباً، فقد أطلق القاعدة السلوكيّة التي اشتهر بها حتى أنها انسحبت على الحزب كله وتكاد تكون تسمية له وهي القول «الحياة كلها وقفة عز فقط» قاعدة تضبط السلوك وترفع الهامات وتحفظ الكرامات وتريح الصديق ولا تطمئن العدو.
لقد نجح سعاده في خياراته وأدائه وجاء دليل نجاحه ساطعاً اليوم حيث لم تخلُ ساحات مقارعة العدوان الصهيوني والإرهاب التكفيريّ من مقاتلي الحزب «نسور الزوبعة»، كما يسجل من جهة أخرى ثبات الحزب ومن ينتمي إليه على المفاهيم القومية التحريريّة والفكريّة الاستقلاليّة، ما يؤكد أنّ الفكر الذي أطلقه سعاده والزرع الذي زرعه كان في محله وفي الوجهة السليمة الصحيحة التي تراعي ما تقدّمه الجغرافية وتمكّن من بناء القوة القادرة على البقاء وتحقيق الأهداف ما يعني بحقّ أنّ سعاده رجل الفكر الاستراتيجيّ الواقعيّ الطموح والرؤيويّ الناجح…