أولى

سعاده: مسيرة صاعدة

كان سعاده الحاضر بيننا اليوم في كل مواقع الصراع ثورياً رؤيوياً اكتشف بعقله الثاقب معادلات المرحلة فيما كان أغلب السياسيين يرون قوة لبنان في ضعفه مُسلّمين أوراقهم سلفاً للمستعمر. وعندما حوصر سعاده من الخارج والداخل لمنع أزهاره من التفتح والعطاء أعطى نفسه ليضمن لهذه الأمة الحياة الحرة الكريمة التي تستحق تحت الشمس

‭‬ بشارة مرهج*‬
*نائب ووزير سابق

تميّز فكر سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بالوضوح والجذرية إذ كانت مقاربته للقضايا والإشكالات مقاربة علميّة بحتة قائمة على البحث في الظواهر الاجتماعية وتقصّي الحقائق والمقارنة بينها قبل الخروج بنصوص قاطعة يطرحها على الملأ بجرأة ومسؤوليّة. لكلّ ذلك يمكن القول إنّ المنهج الذي سلكه سعاده في دراساته واستنتاجاته هو المنهج العلمي الذي يستند إلى معطيات ملموسة، والتفكير المنطقي ودقة الملاحظة والبرهان، بعيداً عن الأوهام والخرافات التي تشغل حيّزاً كبيراً من كتب السلف والمتأخرين على حدّ سواء.
كان سعاده يعطي العقل – هبة الله إلى الناس – مكانة كبيرة ومتميّزة انطلاقاً من قدرة الإنسان على توسّله طريقاً الى الحقيقة وخير العمل، في عالم تصطخب فيه النظريات وتُزوّر فيه الحقائق الاجتماعية والسياسية لصالح قلة مهيمنة تتسم بالأنانية والنظرة الضيقة التي تهدّد مصالح العموم والمجتمع بشكل خاص.
ولأنه كان مؤمناً بحقّ الإنسان في المعرفة والتعبير الحرّ والبناء المجتمعي الإيجابي فقد ربط ما بين العمل السياسي، الضروري لنهضة الأمة، وما بين القيم الاجتماعية السامية التي أبرزتها الحضارة الإنسانية في مراحل تطورها المختلفة، مؤكداً في الوقت نفسه على ضرورة تجلي هذه القيم في البنية الحزبية التي تشكل وطناً مصغراً يحاكي طموحات المستقبل ويعاند في تجسيدها على أرض الواقع.
ومن هذا المنطلق رأى سعاده أهمية التركيز على توحيد المجتمع كي تكتمل دورته الداخلية وتتجلّى تفاعلاته مع حقيقته وبيئته الطبيعية وحقوقه الثابتة وآماله المشروعة، على أن يترافق ذلك مع نضال دؤوب لمحاربة كلّ أشكال التجزئة والانقسام التي تفتح ثغرات واسعة يتسرّب من خلالها المستعمر وثقافته المشبعة بسموم التبعية والخنوع والانحطاط. ولما كان المستعمر طامعاً بأرضنا وثرواتنا ويعمل ليل نهار لاستتباعنا واحتلال عقولنا وتمزيق مجتمعنا وتزييف تراثنا فإنّ مقاومته تصبح فرض عين على كلّ فرد يعي حقوقه ويشعر بمسؤوليّته تجاه بلاده ومستقبلها، فكيف إذا كان هذا المستعمر يحاول الاستيطان على أرضنا ويعمل على تهجير شعبنا بالحديد والنار غير عابئ بكل الحقوق والقيم والمبادئ الإنسانية التي تنظم العلاقات بين الشعوب وتسمو بها نحو الأخوة الإنسانية التي تؤمن للافراد، كما المجتمعات الحرية والسلام.
وبهذا المعنى فإنّ مقاومة الاحتلال والقهر والاستلاب تصبح بمثابة فضيلة مجتمعية ترفع من شأن الإنسان في الوقت الذي يناضل في سبيلها وتعزيز موقعها في المجتمع المتطلع الى الاستقلال والحرية. وفي هذا السياق نرى سعاده في طليعة الذين آمنوا بالنضال من أجل وحدة المجتمع والتحرّر من مخالب المستعمر المهيمن على معظم جوانب حياتنا. وقد رأى في هذا المجال أنّ أنصاف الحلول ليست مجدية، وانما الحلول الجذرية التي لا تهادن المستعمر حتى دحره والتخلص من تأثيراته كافة.
واليوم إذ تشتدّ الهجمات الصهيونية على غزة الصامدة بأهلها وأطفالها ومقاوميها نكتشف من جديد عمق وصوابية الأفكار الطليعية التي طرحها سعاده عندما أكد على حتمية مقاومة الغزاة وكسر إرادتهم واعتبار هذا النهج ممراً إجبارياً لتحقيق الانتصار. فإذا كان العدو من خلال حربه العنصريّة يرمي الى الاستيلاء على غزة وفلسطين بكاملها بعد تهجير أهلها، فإنّ المقاومة تصبح الوسيلة الأنجع إنْ لم تكن الوحيدة لحماية وجودنا وكياننا ومستقبلنا، خاصة أنّ هذه الحرب تستهدف أيضاً استعادة التحالف الأميركي – الصهيوني لنفوذه المتراجع في هذه المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من صراع واسع النطاق مما يفرض على المنطقة أن تهبّ موحدة للدفاع عن نفسها ومصالحها.
وسيطرة هذا التحالف على منطقتنا الغنية بمواردها ومواقعها وممراتها وموانئها البحرية والجوية هي أكثر من حيوية له في ظلّ الحرب المكشوفة التي يخوضها ضدّ الصين لعرقلة مسيرتها الاقتصادية الصاعدة، كما ضدّ الاتحاد الروسي لترويضه وكسر هيبته تمهيداً لحجره تحت المظلة الاستعمارية التي أفتتن بها يوماً بوريس يلتسين رئيس الاتحاد الروسيّ سابقاً.
لقد كان سعاده الحاضر بيننا اليوم في كلّ مواقع الصراع ثورياً رؤيوياً اكتشف بعقله الثاقب معادلات المرحلة، فيما كان أغلب السياسيين يرون قوة لبنان في ضعفه مسلّمين أوراقهم سلفاً للمستعمر. وعندما حوصر سعاده من الخارج والداخل لمنع أزهاره من التفتح والعطاء أعطى نفسه ليضمن لهذه الأمة الحياة الحرة الكريمة التي تستحق تحت الشمس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى