أنطون سعاده والطائفية
نظرة أنطون سعاده للطائفية اتسمت بالعمق والتحليل الشامل لاكتشافه أنها عائق كبير أمام الوحدة والتقدّم
د. بهاء حلال*
*عميد متقاعد
مقدمة
من نافلة القول التأكيد أنّ تعدّد الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل ليست مشكلة المجتمعات العربية والإسلامية ولا عاهة بنيويّة، لكن المشكلة عندما يؤدلج هذا التعدّد، فتظهر الطائفية وتنتشر في المجتمع بفكر إقصائيّ يلغي الآخر. فالطائفة معطى إيجابي تؤمن الاختلاف والتنوّع والتعايش في إطار الوحدة الكلية بخلاف الطائفيّة فهي هوية مغلقة وأيديولوجية سلطوية ونزعة إقصائية سياسية تتخذ كمطيّة لإلغاء الآخر في مقابل العمل على إقصاء كل ما هو مشترك في إطار الوطنية الجامعة، وبكلام آخر الطائفية ممكن أن تكون ممارسة سياسية ملتوية في ميدان الصراع على السلطة.
للطائفيّة حضور في التاريخ العربي والإسلامي حتى سواء في ثوبها الديني أو المذهبي أو العرقي أو القبلي ولسنا غافلين عما قرأنا عن فتنة الحنابلة في بغداد وصراعهم مع الشافعية عام 323 هجري.
إن إشكالية الطائفية في المجتمعات العربية ممتدة في عمق الزمان والمكان، وتزداد الخطورة مع التطورات المتسارعة التي تمرّ بالمنطقة من تهديد لوحدتها الوطنية عبر طوائف وجماعات مرتمية في أحضان دول أجنبية.
كل ما ذكرته أعلاه كان قد وصل فكر أنطون سعاده إليه فاكتشف أنه الجرثومة التي يعدّها لنا الاستعمار للسيطرة علينا وعلى حاضرنا وعلى مستقبلنا. وما كتابات سعاده وأفكاره التي تناولت الإنسان – المجتمع وتأثير الطائفية على حدود بلادنا الواقعية والأخلاقية والثقافية.
***
أنطون سعاده هو من أهم المفكرين والبارزين في العالم العربي والذين تناولوا الكثير من القضايا الإنسانية، ولد في ضهور الشوير العام 1904، وكان له دور بارز في الحياة السياسية خلال فترة الانتداب الفرنسي. أسس الحزب السوري القومي عام 1932 بهدف تحقيق الاستقلال الكامل لسورية الطبيعية وتحقيق جبهة عربية. قاد حملات ضد الاستعمار الفرنسي وقد اعتقل ونُفي عدة مرات بسبب نشاطه السياسي وبسبب تأثيره الكبير في المجتمع لكون أفكاره القومية كانت عابرة للطوائف وهي شاملة وحازمة ضد الطائفية. فمن وجهة نظره فالطائفيّة تعتبر من أكبر العقبات التي تحول دون تقدّم المجتمع وتماسكه.
كان يؤمن أن الطائفية تفرّق الأمة وتُضعفها، وتكرّس التبعية والانقسام داخل المجتمع، لذلك دعا الى بناء نظام اجتماعي وسياسي يعتمد على القومية كأداة للوحدة الوطنية، بعيداً عن الانتماءات الطائفية والدينية. كما رأى سعاده أن تجاوز الطائفية يتطلّب تغييراً في الفكر والثقافة والسياسات الاجتماعية، وتغييراً أيضاً بالنظرة الى الإنسان بحد ذاته وكل ذلك من أجل بناء مجتمع موحّد ومتقدّم.
أولاً: نظرة سعاده للإنسان
الإنسان التام في نظرة أنطون سعاده هو: «الإنسان – المجتمع – الأمة» أما بالنسبة للفلاسفة الآخرين فهو «الإنسان – الفرد أو الشخص».
حتى أن الرسالات الدينية الراقية جاءت تقول بالإنسان – الفرد ومن أجل الإنسان – الفرد. بينما الفرد الإنساني في نظر سعاده هو عنصر إنساني وليس الإنسان التام. هو مجرد إمكانية إنسانية أو فعالية غير كاملة، وغير تامة. فحيث لا وجود لمجتمع لا وجود لفرد، وحيث يوجد المجتمع يوجد الفرد. وقد جاء في كتاب نشوء الأمم لسعاده في فصل الاجتماع البشريّ أن «الاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه، إذ أننا حيث وجدنا الإنسان وفي أية درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه في حالة اجتماعية. وهكذا نرى أن المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للإنسان الضروريان لحياته وارتقائه.
ولما كنّا لم نجد الإنسان إلا مجتمعاً ووجدنا بقايا اجتماعه في الطبقات الجيولوجيّة أيضاً، فنحن محمولون على الذهاب الى ان الاجتماع الإنساني قديم قدم الإنسانية، بل إننا نرجّح أنه أقدم منها وأنه صفة موروثة فيها».
وبما أننا لم نجد الإنسان إلا مجتمعاً، فقد أصبح بديهياً أن الاجتماع الإنساني هو أساس وجود الإنسان ولا وجود للإنسان ولا حياة ولا بقاء إلا باجتماعيته. فالاجتماع بداية الإنسان وفي المجتمع حياته ولا بقاء له من دون المجتمع.
وهذا ما يوضح بسهولة أن الإنسان الكامل هو الإنسان – المجتمع، وأن الإنسان – الأكمل والأتمّ هو الإنسان – الأمة التائق إلى العالمية الإنسانية.
ثانيا: الطائفية وفق رؤية سعاده
تناول أنطون سعاده قضية الطائفية بعمق وانطلاقاً من المجتمع والإنسان وقد اتسمت رؤيته لها بالموضوعية والتاريحية، إذ اعتبرها أحد العوامل المدمرة للوحدة الوطنية والاجتماعية.
لقد أكد أن الطائفية ليست ظاهرة جديدة أو محصورة في فترة معينة، بل هي نتاج تاريخيّ طويل مرتبط بتعدّد الأديان والمذاهب في المنطقة، وهي ليست مجرد اختلاف ديني بل هي أيضاً نتاج تفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة.
وقد اعتبر أن القوى الاستعمارية والسلطات المحلية غالباً ما استخدمت الطائفية كأداة لتفريق الشعوب والسيطرة عليها مما يؤدي إلى تقسيم المجتمع على أسس طائفية ليسهل عليهما التحكم فيه وإضعاف مناعته ومقاومته، وهذا ما شهده العالم العربي خلال فترات الاستعمار وما بعدها.
للطائفية أثر هدام على الوحدة الوطنية، فقد رأى سعاده أنها تهدد الوحدة الداخلية للوطن والمجتمع والإنسان، لأنها تخلق حالة من الانقسام والعداء بين مكوّنات المجتمع المختلفة مما يعيق التطوّر الاجتماعي والسياسي ويجعل من الصعب تحقيق الاستقرار والتنمية.
أكد أنطون سعاده على أن الهوية القومية يجب أن تكون الأساس الذي يجمع أفراد المجتمع، وليس الهوية الطائفية، فالقومية بنظره هي هوية شاملة تتجاوز الانتماءات الطائفية والدينية وتوحّد الأفراد على أساس المواطنة والانتماء الى الوطن الواحد.
الحلول التي قدّمها سعاده
أولاً: تعزيز الهوية القومية
دعا أنطون سعاده الى تعزيز الهوية القومية من خلال التعليم والإعلام والسياسات الثقافية، حيث يجب على المؤسسات التربوية والإعلامية أن تلعب دوراً في ترسيخ مفهوم هذه الهوية وتشجيع الأفراد على التعرّف على تاريخهم وثقافتهم المشتركة.
ثانيا: إلغاء الطائفية السياسية
رأى سعاده أن الخطوة الأولى نحو التخلّص من الطائفية هي إلغاء النظام الطائفي في السياسة، حيث يجب أن تبنى الدولة على أسس مدنية علمانية تفصل بين الدين والسياسة وتضمن المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية.
ثالثا: التوعية والتثقيف
ركّز سعاده على أهمية التوعية والتثقيف في مكافحة الطائفية وشدّد على وجوب نشر ثقافة الوعي بين الأفراد حول مخاطر الطائفية وضرورة الوحدة الوطنية من خلال الندوات والحملات التوعويّة والبرامج التثقيفيّة، لكون الطائفية تثبت الاستعمار والاحتلال والاعتلال أيضاً بالتفكير ليصبح الإنسان المكوّن للمجتمع خانعاً وخاضعاً ومتلقياً سلبياً دائماً.
في الخلاصة إن نظرة أنطون سعاده للطائفية اتسمت بالعمق والتحليل الشامل لكونه اكتشف أنها تمثل عائقاً كبيراً أمام وحدة المجتمعات والوحدة الوطنية والتقدّم الاجتماعي. وقد حذّر من استخدامها من قبل الاستعمار والاحتلال كأداة للسيطرة على قرارت الأمة وتقسيمها اثنياً وطائفياً بغية النيل منها، ودعا في المقابل إلى تعزيز الهوية القوميّة وإلى تبنّي سياسات مدنيّة علمانيّة لتحقيق المساواة والوحدة بين أفراد المجتمع. وهذا إذا دلّ على شيء فهو يؤشر إلى أن رؤيته للطائفية ودعوته للقومية الشاملة أحد الأسس الفكرية الهامة التي يمكن الاستفادة منها في مواجهة تحديات الطائفية البغيضة في العالم العربي اليوم.