هل لدى الشعوب بصيرة تاريخية جمعية؟
ناصر قنديل
– يتحدث علم الاجتماع السياسيّ عن ما يُسمّى بالوجدان الجمعي للشعوب، لجهة وجود منظومة قيم ترسم ضوابط السياسات التي تجعل الحاكم مجبراً على أخذها بالاعتبار، وتجعل القوى السياسيّة مدفوعة للتنافس في إثبات الأهليّة لحمايتها والعمل لرفع مكانتها، لكن لا حديث مثبتاً علمياً عن بصيرة تاريخيّة جمعيّة للشعوب، تفسّر بعض التحولات التي تأتي كأنها بفعل قوى خفية واعية رسمت مساراً لتغييرات في القيادة أو في السياسات بقوة حضور الشعب بصورة ذكية ومتقنة وعلى خلفية حسابات دقيقة.
– في بريطانيا كان السؤال المربك هو كيف يمكن تفسير خروج مئات الآلاف في الشوارع دعماً لفلسطين من جهة، وتقديم الدعم الكامل لإيصال حزب العمال إلى الحكم، وهو يحمل مواقف لا تختلف عن مواقف حزب المحافظين من حرب غزة وحقوق الشعب الفلسطيني، حتى تشكلت أول حكومة بعد الانتخابات، وقال وزير الخارجية الجديد، إن لندن لا تستطيع التغاضي عن حجم الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين، وأعلن أن حكومته لا تستطيع التفرج والتصرف وفق السياسات القديمة، وأنها سوف تستخدم ثقلها لفرض حل ينهي هذه الحرب، بحيث بدا اختيار الناخب البريطاني لحزب العمال جاء بخلفية قطع الطريق على عودة حزب المحافظين لكن من ضمن تعاقد غير معلن، وغير محكي، وغير مكتوب، بين العمال والناخبين بأن السياسات يجب أن تتغيّر.
– في فرنسا وجّه الناخبون في الدورة الأولى من الانتخابات رسالة الغضب لحزب الرئيس إيمانويل ماكرون، وحدّدوا حجم حزبه السياسي، بصفته لاعباً طارئاً على المشهد الفرنسي عليه الاستعداد للرحيل، وبدت رسالة الدعم القويّة شعبياً لليمين علامة تحول تاريخيّ لفرنسا والفرنسيين، لكن هؤلاء الناخبين في الدورة الثانية قاموا بتصحيح خطأ افتراضيّ قبل وقوعه فقطعوا الطريق على اليمين ومنعوه من الحصول على أغلبيّة تتيح له تشكيل حكومة، وفرضوا حلفاً انتخابياً بين حزب ماكرون واليسار، بصورة انتهت بإقصاء اليمين عن المرتبة الأولى لصالح اليسار، بما ترك الباب مفتوحاً لحكومة تضمّ اليسار وحزب ماكرون، ولكن دائماً على قاعدة تصويتين عقابيين متتاليين، الأول لماكرون بتصعيد اليمين، والثانية لليمين بتصعيد اليسار.
– في إيران حيث حملت الانتخابات الرئاسيّة مرشحاً محسوباً على التيار الإصلاحي إلى رئاسة الجمهورية هو الرئيس مسعود بزشكيان، لم يظهر فشل المرشح المحافظ سعيد جليلي بالفوز هزيمة للقوى المساندة للمقاومة، وقد أكد الرئيس بزشكيان في رسالته الجوابيّة على التهنئة للسيد حسن نصرالله التمسك بخيار دعم المقاومة وقواها، فظهرت إيران كأنها أنهت مرحلة مراكمة فائض القوة، بعد انتصارات محور المقاومة من جهة، وتظهير الحضور القويّ لإيران كقوة مهابة الجانب عسكرياً، عبر الرد الرادع على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والانكفاء الأميركي الإسرائيلي عن الردّ على هذا الرد الرادع وإخلاء الساحة الاستراتيجية لإيران في المنطقة، وبفضل هذه المكانة وتلك الإنجازات، بات بمستطاع إيران توسيع هوامش الحريات داخلياً، وفتح المجال خارجياً أمام اختبار علاقة ندّية مع الغرب عبر إتاحة الفرصة لاختبار تفاوضي يعطيه وصول رئيس إصلاحيّ فرصاً قوية، فيمنح من يريد القول إن التغيير نحو إيران ليس ضعفاً بل لأن إيران تغيّرت، ويسقط إمكانية التذرع بالتشدّد الإيراني، ويتحوّل الى حجة إيرانية للتشدد اذا لم يقدم الغرب على ما يلزم.
– في تركيا عاقب الناخبون حزب العدالة والتنمية الحاكم على موقفه المتخاذل في نصرة غزة، وتقاطعت الرسالة الشعبية مع متغيّرات كشفت خطأ سياسات حكومة رجب أردوغان، من تراجع أوكراني أضعف حجة القوى الواقفة في الوسط، خصوصاً من يدّعون الصداقة بروسيا، وبالتوازي ظهر التقدّم الإيراني إلى المرتبة الأولى إقليمياً مع تراجع إسرائيلي بائن، وتراجع أميركي بائن، لكن أيضاً مع تراجع تركي بائن، وتحوّلت الرسالة الشعبيّة السلبية لأردوغان وحزبه مدخلاً لإعادة صياغة مكانة تركيا في الإقليم، بحيث جاء الانفتاح التركي على سورية تعبيراً عن تلقي رسالة الناخبين، وترجمة لسياسة تستثمر على العلاقة الأشدّ قوة ووضوحاً مع روسيا وإيران، وابتعاد واقتراب وفق المصلحة مع الغرب عموماً وأميركا خصوصاً.