مستقبل الصراع العربي – الصهيوني…
} د. محمد سيّد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن مستقبل الصراع العربي – الصهيوني، وحتماً لن تكون الأخيرة، فخلال هذا الأسبوع كنت ضيفاً على قناة «المنار»، بصحبة الإعلامي المقاوم عمرو ناصف، وكانت الحلقة بعنوان: «زوال الكيان العنصري الصهيوني بين الحقيقة والخيال»، وطرح المذيع سؤالاً استنكارياً في بداية الحلقة يقول: «إسرائيل إلى زوال حقيقة أم درب من خيال»؟! ثم استطرد ليؤكد أننا مؤمنون بزوال هذا الكيان، لكننا نطرح هذا السؤال لنثبت أنه توقّع قائم على أسس علمية ومنطقية تصل لحدّ البديهيّات والمسلّمات، ليس فقط عند العرب المقاومين، لكنها قناعة راسخة عند الصهيوني نفسه…
وهذا ما يؤكده الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقاله: «الدولة الصهيونية بين المأساة والملهاة» والذي كتبه في عام 2008، فيقول: «على عكس ما يتصوّر الكثيرون فإنّ هاجس زوال الدولة الصهيونية يعشش في وجدان الإسرائيلي، فلا يجب أن ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة قد لاقت نفس المصير أو الاختفاء»، ويحدّد المسيري عشرة أسباب لهذا الزوال الآتي لا محالة، وهي: «فشل الصهاينة في تحديد ماهية الدولة اليهودية، تآكل المنظومة المجتمعية لـ»إسرائيل»، فشل مصطلح الصهر، انهيار نظرية الإجماع الوطني لاتساع الهوة بين العلمانيين والمتديّنين، تغيير السياسات والتوجّهات بما يزيد حالة القلق داخل «إسرائيل» من قبل المفكرين والمثقفين الذي وصل لحدّ الهاجس من الانهيار، ارتفاع معدّلات النزوح من الكيان الصهيوني أو ما يسمّى بالهجرة المعاكسة، انعدام ثقة الصهيوني بأن لـ»إسرائيل» مستقبلاً، عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة العسكرية، تزايد الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة، تشبّث العرب في الأراضي المحتلة بحقوقهم وفشل الإسرائيلي في القضاء على السكان الفلسطينيّين وهو ما يجعل الوضع الديموغرافي في صالح الفلسطينيين وليس الصهاينة، استمرار المقاومة بكل أشكالها». هذا ما توقعه المسيري قبل سنوات، فما بالنا لو شهد طوفان الأقصى وما أحدثه من زلزال حتماً سيعجل بزوال هذا الكيان الهش؟!
وحاولت من خلال الحلقة، ومعي الأستاذ تحسين الحلبي المفكر الفلسطيني، الإجابة على السؤال، وأحاول هنا مجدداً التأصيل لحقيقة الصراع العربي – الصهيوني، من أجل تشكيل وعي حقيقيّ داخل بنية العقل الجمعي العربي، حتى يمكننا استشراف مستقبل هذا الصراع. ففي الوقت الذي نؤكد فيه على أن هذا الصراع هو صراع وجود، هناك تيار داخل النخبة العربيّة يسعى لتكريس فرضيّة وهميّة تقول إنّ صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع حدود، بمعنى أنه يمكننا التعايش مع هذا العدو بعد توقيع اتفاقيات سلام مزعومة، على أن يسمح هذا العدو لهم بتأسيس دولة فلسطينية على جزء من الأرض العربية الفلسطينية المحتلة، وهو ما تبلور بفكرة حلّ الدولتين على حدود 4 يونيو 1967، وحاول أنصار هذا التيار التطبيعيّ تزييف وعي العقل الجمعي العربي على مدار نصف القرن الماضي مما خلق بعض الأتباع الذين يعتقدون بإمكانية السلام والتعايش مع العدو الصهيونيّ ويحاولون إقناع الأجيال الجديدة بأفكارهم الانهزامية التي لا أساس لها على أرض الواقع، في الوقت الذي يروّجون فيه لنظرية الواقعية السياسية التي تؤكد من وجهة نظرهم أن العدو الصهيوني يمتلك قدرات عسكرية متطورة وهائلة، ويلقى دعماً غربياً ودولياً منقطع النظير، لذلك لا يمكننا مواجهته وعلينا أن نستسلم للأمر الواقع وننفذ رغبات هذا العدو الصهيونيّ المغتصب والمحتلّ لأرضنا العربية.
وفي محاولة تفنيد ادّعاءات أنصار هذا التيار الانهزاميّ فعلينا أن نذكر العقل الجمعي العربي الذي يتعرّض لعملية تزييف كبرى بحقيقة وجوهر الصراع، وهنا لا بدّ من العودة للبداية ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان اليهود الصهاينة يعيشون في الشتات حول العالم، ولم يكن لهم وطن قومي يجمعهم، وعندما فكر قادتهم الأوائل في البحث عن وطن لهم ليجمع شتاتهم من حول العالم، لم يجدوا أمامهم غير بريطانيا الاستعمارية التي كانت تفرض سيطرتها وهيمنتها بالقوة على أجزاء كبيرة من وطننا العربي، واستقر رأي المتآمرين على اغتصاب الأرض العربية الفلسطينية، وتمّ الإعلان عن المؤامرة عبر ما عُرف بوعد بلفور وهو الاسم الشائع الذي عُرفت به الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني آنذاك بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبالطبع منح هذا الوعد من لا يملك لمن لا يستحق، فالحكومة البريطانيّة لا تملك الأرض العربية الفلسطينية، وإن سيطرت عليها بقوة السلاح واحتلتها، واليهود الصهاينة الذين جاؤوا من كل أصقاع الأرض لا يستحقون أرض فلسطين، وقد لقي الوعد المزعوم رفضاً فلسطينياً قوياً، فاندلعت مجموعة من الثورات، جسّدت كفاح الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني، لكن القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وأميركا استمرّتا في دعم الوجود اليهودي الصهيونيّ داخل الأرض الفلسطينية وفي 29 نوفمبر 1947 صدر قرار ظالم من هيئة الأمم رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عربية وأخرى يهودية، مما أدّى إلى إعلان قيام الدولة اليهودية المزعومة دولة مستقلة على أرض فلسطين المغتصبة في 15 مايو/ أيار 1948, ومنذ ذلك التاريخ والشعب الفلسطيني يقاوم ويحارب من أجل استرداد أرضه.
ولتأكيد هشاشة وضعف ادّعاءات أنصار تيار التطبيع والسلام المزعوم، يجب التعرّف على مخطّطات العدو الصهيوني الاستراتيجية التي لم ولن يحيد عنها منذ ولادة فكرته الشيطانية، إن العدو الصهيوني عندما وقع اختيار قادته الأوائل على أرض فلسطين لتكون وطنهم المزعوم، كانوا يخطّطون لأبعد من الحدود التي رسمتها هيئة الأمم بقرارها الظالم رقم 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين الانتدابيّة إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية، وذلك بناءً على توصية لجنة بيل في عام 1937 وفي أعقاب التوصية كتب ديفيد بن غوريون رسالة لابنه يقول إنّ التقسيم سيكون مقبولاً ولكن كخطوة أولى «هذا بسبب أنّ هذه الحيازة المتزايدة ليست ذات أهمية في حدّ ذاتها فحسب، بل لأنه من خلالها نزيد من قوتنا، وكل زيادة في القوة تساعد في حيازة الأرض ككل. إن إقامة الدولة حتى لو كانت فقط على جزء من الأرض، هي التعزيز الأقصى لقوّتنا في الوقت الحالي، ودفعة قويّة لمساعينا التاريخية لتحرير البلد بأكمله». وهنا يجب أن نلاحظ أن بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني يتحدّث عن كيان كبير يتجاوز ما حصلوا عليه في القرار 181 الذي أعلنوا من خلاله قيام دولتهم المزعومة في 15 مايو/ 1948.
وبناءً على ذلك تجسّدت حدود الوطن المزعوم الذي سعى قادة العدو الصهيوني لاغتصابه، من خلال العبارة التوراتية المزعومة المنقوشة فوق باب الكنيست الإسرائيلي والتي تقول «لما تجلّى الرب على إبراهام منحه الأرض المقدسة من النيل إلى الفرات»، ويشار إلى «إسرائيل الكبرى» المزعومة كما يؤمن أنصار العقيدة الصهيونية بأنها أرض الميعاد التي وعد بها الرب في سفر التكوين، وهذا ما أكده تيودور هيرتزل مؤسس الصهيونية العالمية عام 1904 حين أعلن صراحة أن حدود دولة «إسرائيل» تمتدّ من» نهر مصر إلى الفرات»، وجاء بن غوريون لينفذ المخطط الصهيوني كما أسلفنا حيث أكد على أنهم سوف يسعون لتحرير وطنهم المزعوم بأكمله، وهو بذلك يعتبر سكان هذا الوطن الكبير محتلين ويسعى جيش الكيان الصهيوني لمحاربة الاحتلال حتى التحرير، لذلك ما تقوم به عصابات العدو الصهيوني الآن في غزة من حرب إبادة للشعب الفلسطيني هي جولة من جولات التحرير المزعومة والمدعومة عقائدياً.
ووفقاً لهذه العقيدة المزعومة، فالعدو الصهيوني يعتبر صراعنا معه صراع وجود وليس صراع حدود، لذلك سوف يفعل ما يفعله بسكان غزة بسكان كل المناطق والدول الواقعة بين النيل والفرات وذلك لإيمانه بأن هذه هي إسرائيل الكبرى الأرض التي وعد بها الرب في كتابه المقدس، لذلك فقادة العدو الصهيونيّ يوهمون المستوطنين الصهاينة الذين جلبوهم من كل أصقاع الأرض أنهم يخوضون حرباً مقدسة لتحرير الأرض المحتلة من قبل العرب وهي أرض الميعاد، وقد أكد بن غوريون أثناء الاجتماع التنفيذي للوكالة اليهودية في يونيو/ حزيران 1938 أنهم سيحاولون بكل الطرق تحرير إسرائيل الكبرى، حيث قال «سنحطم هذه الحدود التي تفرض علينا، وليس بالضرورة عن طريق الحرب، أعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق بيننا وبين الدول العربية في مستقبل غير بعيد». ومن هنا يتضح أن تأسيس تيار التطبيع ومهادنة العدو داخل المجتمع العربي قد جاء كجزء من المخطط الصهيوني الشيطاني، فاتفاقيات السلام العربية المزعومة بداية من كامب ديفيد، مروراً بأوسلو، ثم وادي عربة، وانتهاءً بالهرولة الخليجية، والمغربية والسودانية، قد خطّط لها قادة العدو الصهيوني منذ زمن بعيد ومن لم يسلم طواعية فحرب الإبادة هي البديل، لذلك يجب أن يعي العقل الجمعي العربي أن صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس حدود، فكلّ مَن يعتقد أن العدو الصهيوني يمكننا التعايش السلمي معه في مكان وجوار واحد فهو واهم، هذه الأرض الواقعة بين النيل والفرات وفقاً لعقيدتهم المزعومة لا يمكن إلا أن تكون لهم أو لنا لذلك فوجودنا أمام وجودهم، وبالتالي فمستقبل الصراع العربي – الصهيوني لن يُحلّ إلا بالمقاومة، لأنها الشرط الحاكم في زوال الكيان الصهيوني، كما أكد المسيري، وكما يؤمن كل عربي حر، وهو ما يؤكد سلامة موقف الزعيم جمال عبد الناصر حين قال في مؤتمر الخرطوم: «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف»، وحين رفع شعار: «ما أخذ بالقوة لن يُسترد إلا بالقوة»، اللهم بلغت اللهم فاشهد…