مقالات وآراء

غزة وجبهات إسنادها… العدو يواجه تآكل الرّدع

 د. رضا الشّاب*

تسعة أشهر ونيّف على المذبحة الكبرى، وما زال النصر الصهيوني بعيداً… فصحيح أنّ «إسرائيل» اليوم تبدو في صورة مَن تقاتل ضدّ أسباب وجودها وليس فقط ضدّ مَن تريد إلغاء وجودهم في قطاع حاصرته الجغرافيا على حدود مصر، مع ذلك لا يزال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يرتدي وجيشه زيّ الميدان ويواصل القتال بيمناه، ويلوّح على استعلاء بأوراق التفاوض مع الفلسطيني باليسرى.
أسابيع حاسمة دخلتها جولة المفاوضات الجديدة برعاية أميركية، قطرية، مصرية، وبعراقيل «إسرائيلية» مستولدة من رحم إرضاء أحزاب اليمين المتطرف، صاغها ويصوغها «بيبي» الطامح لشراء الوقت إلى حين دخول حليفته الأميركية في الغيبوبة الانتخابية لأشهر ستة، على أمل أن تحمل معها صديقه الجمهوري دونالد ترامب «الشهيد السياسي الحيّ» الناجي من محاولة اغتيال سوريالية إلى سدة الرئاسة في بلاد أقام الجيش الإسرائيلي «مستوطنات» داخل «مؤسساتها الديموقراطية».
جيش ينتقل تدريجياً من سياسة جزّ العشب المعتمدة في غزة، بهدف العثور على منصات صواريخ القسام وسرايا القدس ومعامل تصنيعها، إلى المرحلة الثالثة من الحرب، وهي مرحلة مفتوحة زمنياً وتطلق يد العدو في شنّ عمليات خاطفة يختار أسلوبها وحجمها بناء على معلومات استخبارية. وهذا يعني بحسب المعلن: انسحاب تكتيكي يريح فيه العدو بعض ألويته المقاتلة وينتشلها من وحول معارك «مسافة الصفر» لاستدعائها عند الحاجة إلى مستوطنات الجليل المحتلّ، بعدما فشل في تركيع غزة وتبريد نار مقاومتها في المرحلتين الأولى والثانية بالتوغلات والدمار والمجازر لا سيما الأخيرة، بذريعة تصفية قادة الفصائل والجنرال العصي على الموت محمد الضيف. فلم تطوَ مقاومة غزة ولم تندثر ولا أصابتها الشيخوخة كما توقع نتنياهو.
أما في الشمال، حيث ربطت الجبهة اللبنانية بوصلة تحركها العسكري بخريطة التطورات الميدانية في القطاع ولبنان، فقد أرسى حزب الله معادلة توسيع أمدية الاستهداف للمستوطنات رداً على استهداف المدنيين على الأرض اللبنانية. وهكذا أصبح العدو أمام خط بياني تصاعدي عملياتياً يحاكي وتيرة اعتداءاته. وتساهم هذه المعادلة الجديدة في تعميق مأزق العدو ومفاقمة ضغوطه الداخلية، إذ بدلاً من حلّ معضلة غلاف الجليل الواقع على خطّ النّار مع حزب الله، يزداد عدد المستوطنات المستهدفة، ما يعني موجات تهجير إضافية خصوصاً في المستوطنات المأهولة. وهو ما أكده مركز الأبحاث الإسرائيلي «ألما» بتوثيقه سبعاً وعشرين عملية للحزب في المناطق المأهولة في الجليل منذ انطلاق جبهة إسناد معركة طوفان الأقصى.
جبهة حاكتها اليمن بالاستعداد ليس فقط للردّ التناسبي على عملية «اليد الطويلة» الإسرائيلية في الحديدة، بل إلى ما يتناسب مع المرحلة الخامسىة من إسناد غزة مقاومةً وشعباً، سواء في القدرة المباشرة على استهداف الكيان في بناه التحتية العسكرية والمدنية، أو ما يرتبط بمصالحه في الخارج، وذلك بعد نجاح اليمن في ضرب «تل أبيب» بمُسيّرة «يافا»، وإسقاط مظلة الدفاع الأخيرة لسردية الملجأ الآمن لمستوطنين باتوا يحملون على جوازات سفرهم سمات دخول إلى جنة المنفى. وإنْ كان مِن تطوّرٍ حملته تضاعيف الحدث، فهو القلق المخيّم على المستويين العسكري والسياسي في «تل أبيب» من نوايا موسكو تزويد صنعاء بأسلحة كاسرة للتوزان كجزء من ردّ فعل الكرملين على قرارات الولايات المتحدة وأوروبا تزويد أوكرانيا بأسلحة لاستهداف قلب روسيا، لا سيما بعدما أعلنت أنصار الله مغادرة مربع رفع شعار الموت لـ «إسرائيل» إلى مرحلة تسييله على هيئة أمر عمليات ميداني. عمليات تشارك فيها فصائل المقاومة العراقية باستهداف الأراضي المحتلة في حيفا وإيلات، فضلاً عن القواعد الأميركية في البادية السورية.
كلّ ذلك، والإجرام «الإسرائيلي» يتواصل في الضفة وغزة وعدّاد شهداء فلسطين لا يتوقف. وهو ما أكده المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مُحصياً سقوط أكثر من مئة وخمسين شهيداً كمعدل يومي جراء القصف المستمر على مدن القطاع. لكأنّ شهداءَ هذه الأرض يتناسلون بعد الغياب، لا يرحلون فرادى في زمن لا تحاسِب أممه على المجازر وحروب الإبادة عندما يتعلق الأمر بدولنا وشعوبها. فمجلس الأمن لا يعدو كونه دائرة تنديد بالقتل الجماعي، والعالم يتعاطى مع المذبحة وكأنها «حدث أمني» في الداخل المحتلّ لا يعني إلا حكومة نتنياهو.
فيما تقف غزة، الإسم الجهادي لفلسطين، مجدّداً بأسطورية صمودها أمام سفاح مدعوم من دول «العالم المتحضر»، ليس معها إلاّ دم أبنائها وإخوتها مشعلي جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وسورية وإيران، تفتقد اليوم أهلها من العرب فيشيحون بأبصارهم عنها ليتابعوا مجريات النزال الانتخابي في الولايات الأميركية لِتَلمّس هوية رئيسها العتيد، تمهيداً لتقديم فروض الطاعة والولاء له…
*أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وكاتب سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى