عودة العلاقات السورية التركية ومصالح حلفاء دمشق
د. حسن مرهج*
بطبيعة الحال فإنّ الحديث عن إعادة العلاقات السورية التركية، تحكمه محدّدات تتعلق بجوهر السياسة التركية في سورية، وجُملة الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها رجب طيب أردوغان خلال العقد الماضي، في طريقة مقاربته للأزمة السورية، وربطاً بذلك فإنه من الضروري أيضاً استحضار مواقف حلفاء دمشق، ورؤيتهم لعودة العلاقات السورية التركية، والتي لا تنفصل في الجوهر والمضمون، عن أهداف تركيا أيضاً، التي أرهقتها الجغرافية السورية، وباتت تبحث عن طُرق للخروج منها.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لعب دوراً جوهرياً في الأزمة في سورية وتعقيداتها، ولكنه الآن عاد إلى وعيه السياسي، وبات يبحث عن موجبات تحسين العلاقة مع دمشق، ولكن هذا الأمر ليس بهذه السهولة التي يعتقدها أردوغان، وخاصة في الوضع الذي لم يعترف فيه شخصياً بأخطائه الكبيرة، ولكن في جميع وسائل الإعلام والصحافة في أنقرة واسطنبول، يُشار إلى أنّ أخطاء أردوغان وفريقه في سورية لا يمكن إنكارها، وبالتالي فإنّ أردوغان عليه اتباع مسار واضح تجاه دمشق، بغية الوصول إلى الرئيس الأسد، وفتح ملفات والتنازل عن الأوراق، تمهيداً لمرحلة جديدة عنوانها تصفير المشاكل مع سورية.
في الحسابات التركية الأردوغانية الخاطئة، وبلسان مقرّبين من أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ثمة سياسيون أتراك صوّبوا سهام انتقاداتهم نحو أردوغان، ومن اللافت ما قاله يوسف ضياء جوميرت، المحلل التركي: «أولاً، يجب أن نفكر في هذا السؤال: هل قراراتنا السياسية الخاطئة وغير الصحيحة لها تأثير على تدمير سورية؟» كان أحد أخطائنا أننا خلال الربيع العربي، تولينا محاولة الإطاحة بحكومة سورية، ولقد لخص فريق أردوغان ما يلي: «لقد قاتلنا في وقت متأخر من ليبيا، واحتج المتمرّدون بالعلم الفرنسي في بنغازي، لذلك من الضروري البدء بالعمل في سورية».
وتابع جوميرت: «إذا سارت الأحداث في الاتجاه الذي أردناه، فسيكون المستقبل في مصلحتنا لأنه تمّت الإطاحة بنظام البعث وحصلنا على دعم كامل للنظام الجديد، ولكن هذا لم يحدث، وبغضّ النظر عن مقدار الاستثمار الذي واصلناه في الإطاحة بالأسد ودعم جماعات المعارضة التابعة، فإننا لم نحصل بعد على نتائج، وحتى الآن، فإنّ بعض جماعات المعارضة تلك عالقة في إدلب، وطلب الأسد المساعدة من إيران وروسيا وقام بحماية سلطته، ويوجد حالياً حوالي 3.5 ملايين سوري في تركيا، لقد أنشأنا منطقة آمنة بالقرب من حدودنا حتى يتمكن بعض السوريين من العودة، لكنها لم تكن سوى مساحة صغيرة تبلغ 10000 كيلومتر مربع، علينا أن نتقبّل أن سياستنا في سورية فشلت بكل الطرق، كان هدفنا الطموح هو الإطاحة بالأسد، ولكننا الآن فشلنا في تحقيق ذلك، ولا نشعر إلا بالرضا لأن الأكراد في شمال سورية ليس لديهم منطقة حكم ذاتي بأوامر من حزب الاتحاد الديمقراطي وبدعم من الولايات المتحدة، هذا! والآن، بعد كلّ هذه الضجة وكلّ هذه الشعارات العالية والكلمات الحاسمة، نبحث عن سبل اللقاء مع الأسد والعودة إلى أيامنا الماضية، منتظرين الفرصة، ولم تكن القوى الأجنبية هي التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، لقد كانت هذه سياستنا الخاطئة».
مما سبق يتضح جلياً بأنّ سياسات أردوغان احتوت على ما يمكن تسميته النقطة العمياء، وهي نقطة استراتيجية تجاهلها أردوغان، وتجاهل معها عوامل التاريخ والجغرافية، والأهمّ فإنّ أردوغان تجاهل قدرة الأسد على الالتفاف على الأزمات، بل وتطويعها في صالحه، وجملة ما توهّمه أردوغان، لجهة الإطاحة بالأسد في أسرع وقت ممكن، ولتحقيق هذه الغاية قام بدعم الجماعات الإرهابية واستحضارها من شتى أصقاع العالم، حتى بات أردوغان إقليمياً ودولياً الراعي الرسمي للإرهاب، دليل ذلك، قيامه باستثمار الجماعات الإرهابية في ليبيا والقوقاز، الأمر الذي قاد تركيا إلى العزلة السياسية.
ورغم محاولات أردوغان تصفير مشاكله مع دول الجوار، إلا أنّ العقدة السورية تبقى الأهمّ، ومنها سيكون المنطلق نحو تسوية السياسات التركية، وبكلّ وضوح فإنّ حلفاء دمشق وبصرف النظر عن عمق علاقاتهم مع أردوغان، إلا أنّ روسيا وإيران لا يمكنهم التنازل عن حقوق دمشق السيادية، وقد يعملون على التماهي مع مطالب أردوغان، لكنهم لا يساومون في علاقاتهم مع دمشق وموقعها الاستراتيجي، حتى الجنرال جوزيف فوتيل، قائد الأركان المركزية الأميركية عام 2018 في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، أعلن دون مجاملة أنّ الجيش السوري قد انتصر في الحرب، لكن أردوغان استمرّ، وعندما شنّ الجيش السوري الرسمي المدعوم من روسيا، في 27 شباط/ فبراير 2020، هجوماً جوياً على كتيبة من القوات المسلحة التركية واستشهد 34 من جنودنا، لم يكن بوسع أنقرة أن تفعل شيئاً سوى الاحتجاج اللفظي، وكان هذا الحادث الكبير علامة على كيفية تصرف روسيا إذا لزم الأمر.
باتباع نفس المسار في عام 2023، أعيد قبول الرئيس بشار الأسد في جامعة الدول العربية، نعلم جميعاً أنّ الجامعة العربية كانت دائماً ضد سياسة تركيا في سورية، وحتى الآن، يتعيّن على تركيا، لكي تتمكن من إقامة علاقة طبيعية مع سورية، أن تستخدم دبلوماسية ذكية، لأنّ المصالح السياسية لأميركا وروسيا وأخطاء تركيا الماضية خلقت عملياً عقدة عمياء.
الأهمّ في كل ما سبق، أنّ شروط دمشق واضحة حيال إعادة العلاقات السورية التركية، صحيح أنّ روسيا أو إيران يضغطون على دمشق لتقديم بعض التنازلات للحفاظ على مصالحهم في الجغرافية السورية، لكن دمشق تدرك بأنّ لحلفائها مصالح، وهي تتماهى في ذلك، لكن لا يمكن لدمشق تقديم تنازلات جوهرية في هذا الإطار، وهذا ما أعرب عنه بيان الخارجية السورية الذي أوضح صراحة، أن لا عودة للعلاقات السورية التركية إلا عبر مسار واضح وهو انسحاب القوات التركية من الجغرافية السورية.
النقطة الأهمّ تتمثل في أنّ تركيا أدركت هذه الحقائق، وبإدراكها فهي تعمل على تحقيق مطالب دمشق رويداً رويداً، ترجمة ذلك سيكون في اتباع تركيا مسار يحقق لها القضاء على الجماعات الإرهابية المتطرفة، والإبقاء على الجماعات السياسية المعتدلة، ولاحقاً سيتمّ ضمّها إلى مسار الحلّ السياسي في سورية، لكن وفق شروط دمشق، وهنا لا نقول بأنّ مسار إعادة العلاقات السورية التركية سيكون سهلاً، بل على العكس، فهو مسار شائك ومعقد، لكن الاجتماعات الأمنية والعسكرية بين دمشق وأنقرة، سيكون لها وقع كبير في تحقيق الغايات السورية أولاً، وسيعمل على إنزال تركيا من أعلى الشجرة.
*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية