لن نصدق أنه رحل ولن يعود
نارام سرجون
أخاف أن يدري قلمي أنّ عليه ان يكتب مرثية في هذا البطل… لا أجرؤ على مصارحة قلمي انّ عليه أن يكتب ليودع أمين حطيط…
ايّ قلب هذا الذي يقدر أن يأمر القلم ليغمس ريشته في الحزن ويملأ حبره من الروح.. ويحسّ أنه يكتب آخر سطر في أسطورة انتهت روايتها فجأة..
اعذرني ايها العميد.. انْ قلت أنك كنتَ قاسياً علينا برحيلك المفاجئ.. هكذا يرحل من نحبّ من دون أن نودّعهم.. ومن دون أن نقول لهم إننا نحبّهم ونعانقهم العناق الأخير…
للحروب آلهتها وجنرالاتها… ويكاد أبطال الحروب والمعارك ان يكونوا آلهتها.. لذلك فإنّ ما هو أقسى من الحرب هو أن يرحل الجنرال الذي يروّض الحرب.. ويعتلي ظهرها الجامح.. فكيف إذا كان هذا الجنرال بطلاً نحبّه وننتظره.. نبحث عن وجهه يخرج إلينا من بين غبار المعارك ليهدي قلوبنا الطمأنينة.. ويمسح على أرواحنا التي تكسّرت نصال الحروب عليها.. ويسقينا من ماء العزيمة…
كم بلغت القلوب الحناجر في العقود الماضية.. وظمئنا لحمام زاجل يطير إلينا ويحمل لنا رسائل تقول لنا ألا نقلق وألا نخشى العدو.. وأن نثق بأنفسنا.. وكم كانت أقدام وأجنحة الحمام الزاجل محمّلة بأحاديث العميد أمين حطيط التي كانت برداً وسلاماً على قلوبنا المحترقة.. هذا الجنرال الذي لن تنساه ذاكرة «الإسرائيليين» وهو يرسم خطوط انسحابهم من جنوب لبنان ويدفعهم كما تدفع غرائب الإبل عن حدود لبنان عام 2000… فحرّر بصلابته وقوة شكيمته قرابة 3 ملايين متر مربع إضافي كان «الإسرائيليون» يريدون ابتلاعها في بلعومهم والاحتفاظ بها بحجة أنها غير مشمولة بالقرار 425… ولكن هيهات أن يتراجع جنرال التحرير في لبنان العميد حطيط عن متر واحد.. و»الإسرائيليون» وجدوا أنهم أمام قامة عربية عسكرية لم يعتادوا عليها في مفاوضات الكيلو 101 المصرية ولا في أوسلو ولا كامب ديفيد ولا وادي عربة… حيث أولئك النوع من الجنرالات الذين يحملون النياشين على صدورهم.. وفي صدورهم قلوب للأطفال وبعضها قلوب العصافير التي تهتز كورق الشجر في الخريف والتي فيها ذلّ العبيد.. في قلب أمين حطيط وجد «الإسرائيليون» وهم قراصنة الأرض بعضاً من قلب بوصيدون.. المحمّل بالأعاصير.. فكيف للقراصنة ان يقهروا قلباً من سلالة بوصيدون؟
أعترف انّ المعارك والانتصارات في غياب جنرال الحرب لها طعم ناقص.. كما الحلوى من غير سكر.. وكما النبيذ من غير ناره.. وكما البرق من غير الرعد.. وهكذا هي الأمور الجميلة في حياتنا.. لا ندرك كم أنها أجمل الأجزاء من حياتنا ومن قصصنا.. ومن أرواحنا… ومن لا ندرك أنهم السكر في حياتنا المرة.. وأنهم توهّج النبيذ.. وهيبة الرعد والبرق.. إلا عندما يغيبون…
أمين حطيط… الرعد الذي صمت الآن.. ومبعوث بوصيدون الذي حمل أعاصير النار في حقيبته وغادر.. تركنا وغادر.. ولن يأتي حمامه الزاجل إلينا بعد اليوم يحمل في أجنحته ما يشفي قلوبنا التي أشقتها الحروب… ولكن سنبقى نبحث عنه في كلّ خبر ونبحث عنه في كلّ معركة.. ولن نصدّق انه رحل ولن يعود…