هل كانت إدارة المقاومة للحرب صائبة؟
ناصر قنديل
– عندما يجري توجيه الانتقاد لقيادة المقاومة حول إدارتها للحرب المستمرة منذ طوفان الأقصى خلال عشرة شهور، نفهم حتى لو لم يذكر الناقد ذلك أن المقصود هو حزب الله والقيادة الإيرانية، ذلك أولاً، لأن محور الانتقاد يتصل بطلب فعل المزيد قتالياً أو نارياً. ومعلوم ان سائر الجبهات من غزة الى اليمن الى العراق فاجأت بحجم ما أنجزت وتجاوزت كل التوقعات، بينما لدى حزب الله وإيران وحدهما القدرة على المزيد، وثانياً لأن ما يجري انتقاده من مسميات مثل قواعد الاشتباك أو الربح بالنقاط ارتبطت ولا تزال بأداء حزب الله بصورة رئيسيّة وإيران استطراداً.
– الانتقادات تأتي كلما أقدم جيش الاحتلال على فعل دموي كبير، سواء عبر ارتكاب مجازر تقشعر لها الأبدان، ويسقط فيها المئات في غزة شهداء، أو عندما يقوم بعملية اغتيال لأحد القادة في المقاومة، سواء الضباط الإيرانيون في دمشق أو قادة المقاومة في لبنان. وترتبط الانتقادات بالقول ان هذه الحرب يجب أن تخاض دون ضوابط، على قاعدة أن الحرب وجودية وأن كيان الاحتلال ليس عقلانياً ويستغل عقلانية المقاومة للتمادي بالإجرام، وأن ردعه لا يمكن إلا بجعله يدفع ثمناً في أمن مدنه الكبرى ومنشآته الحيوية وقتل المئات والآلاف من مستوطنيه. وهذه هي ترجمة الدعوة للتخلي عن قواعد الاشتباك ومنطق الربح بالنقاط، فهل هذا صحيح؟
– السؤال الأول الذي يجب طرحه ليس افتراضياً، وهو طالما أن هذا الطرح بالتحرّر من قواعد الاشتباك ومعادلة الربح بالنقاط هو مشروع افتراضي، فماذا قالت لنا نتائج الحرب خلال عشرة شهور، هل زادت قواعد الاشتباك ومعادلة الربح بالنقاط من مصادر قوة الكيان أم أنها استنزفت ما كان لديه مع بداية الحرب؟ وهل نجحت المقاومة بمراكمة مصادر قوة إضافية ام انها استنزفت ما لديها، ومصادر القوة في التماسك الشعبي وراء قيادة كل من الجبهتين، وفي التماسك السياسي بين مكوّنات كل جبهة، وتحرك اتجاهات الشارع العالمي والتغيّر الناجم في أداء حكومات مهمة في العالم ومؤسسات دولية يقوّيان موقع أي من طرفي الجبهة المتقابلين، المقاومة والاحتلال؟
– خلال عشرة شهور هناك نتائج واضحة بائنة تقول إن سمة واقع الكيان هي الفشل والعجز والتراجع ومراكمة الخسائر، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وفقدان تماسك الداخل سياسياً وشعبياً، بينما حققت قوى المقاومة إنجازات وهي تمسك بزمام المبادرة في الميدان، وقد أفشلت أهداف الحرب في غزة وفرضت تهجير المستوطنين في شمال فلسطين وفرضت حصاراً اقتصادياً عبر البحر الأحمر، وهذه عائدات إدارة المقاومة للحرب وفق معادلة قواعد الاشتباك والربح بالنقاط، لأنه يكفي تخيل العكس، والسؤال أين كان سيذهب الشارع العالمي لو ظهرت الحرب بصفتها حرب تقاصف على السكان والمدن بين حزب الله وجيش الاحتلال منذ الأيام الأولى، وأين ستذهب تأثيرات هذا الشارع على مواقف الحكومات، وماذا كان هو الحال في داخل الكيان؟
– يلجأ الكيان إلى الارتكابات الدموية الكبرى تعبيراً عن مأزقه وسعياً لتعويض إعلاميّ عن خسائره، وسعياً لرفع معنويات داخله المأزوم والمشكك بقوة الجيش وقدرة الردع، والمجازر لا تجعله يربح الحرب في غزة والاغتيالات لا تجعله يعيد المستوطنين الى شمال غزة، والغارات على الحديدة لا تفتح ممرات البحر الأحمر أمام السفن الذاهبة إلى موانئه، وهذا لا يعني أن المطلوب بقاء هذه الارتكابات دون ردّ، والمقاومة ردّت في الماضي وسوف ترد هذه المرة. والرد يتحرك الى الأعلى حكماً بقياس حجم الارتكابات ومراكمة الجرعات اللازمة للردع، وخير مثال مفاجأة الرد الإيراني الرادع الذي لم يتوقعه الأصدقاء قبل الأعداء، ونحن اليوم عشية كلام واضح لليمن ولبنان وإيران والعراق عن ردّ قاسٍ آتٍ حكماً، لكن ليس على قاعدة أن قواعد الاشتباك والربح بالنقاط كانت الإدارة خاطئة، أو طيبة القلب، بل استمرارٌ للذكاء الذي أنتجها سوف يأتي الردّ ذكياً وشديد التسبّب بالألم.
– الفارق الأخلاقي الذي قد لا يأخذه الكثيرون في حسابهم هو أساسيّ بالنسبة للمقاومة في تحقيق انتصاراتها. وهذا يعني ان الادارة العاقلة والباردة والأخلاقية المبنية على قدرات كافية للإمساك بزمام المبادرة العسكري، والسيطرة على الميدان، ومنع العدو من تحقيق أهدافه، سوف يدفع به الى الجنون وارتكاب الحماقات. وهذه الحماقات سوف تمنح المقاومة مشروعية أخلاقية للردود القاسية والمؤلمة، فتحقق المقاومة مزيداً من المكاسب الميدانية دون أن تخسر ما حققته من مكاسب في تماسك بيئتها السياسية والشعبية معها، ونهوض الشارع العالمي إلى جانب قضيتها، ويكفي أن نسمع المواقف السياسية اللبنانية المؤيدة لحق المقاومة برد قاسٍ وموجع، وأن نسمع الرئيس الإيراني، الذي قيل إنه من بيئة إصلاحية تسعى لترتيب علاقة إيران بالغرب، وهو يقول اليوم إن إيران سوف تدافع عن شرفها وتردّ على قتل ضيفها في عقر دارها، ونسأل لو لم تكن إدارة المقاومة وفق هذا الذكاء هل كانت سوف تحصد هذه النتائج؟ وتخيلوا مناخاً لبنانياً شبيهاً بما كان عليه الحال في حرب تموز 2006 حكومياً وسياسياً؟
– الردود المؤلمة والقاسية آتية بالتأكيد، لكنها لن تهدد بخسارة المكاسب المعنوية والسياسية المحققة بفضل هذه السياسة الذكية لقيادة المقاومة التي تختصرها معادلة قواعد الاشتباك والربح بالنقاط، ومثلما حاول الاحتلال تعديل قواعد الاشتباك والقول إن الاغتيالات يجب أن لا تسبب حرباً، عليه هو أن يستعد لضربات من خارج التوقعات والتأقلم معها على قاعدة أنها لا يجب ان تسبب حرباً. والفارق هنا جوهري بين المقاومة والكيان، فهي لا تريد الحرب لكنها لا تخشاها، بينما هو رغم كل ما يظهره من عدم اكتراث بوقوع الحرب، يريدها ولكنه يخشاها.