الجريمتان الجديدتان في ضوء القانون الدوليّ
محمّد طيّ
إنّ الجريمتين اللتين ارتكبهما العدوّ الصهيونيّ آخر تمّوز المنصرم، كانتا جديدتين نسبيّاً في سياق ما يرتكبه في غزّة وفي جنوب لبنان. فهما أوّلاً، طالتا أعلى القيادات السياسيّة، من جهة، والعسكريّة، من جهة أخرى، وثانياً، جرتا خارج ميدان المعركة الدائرة. فما طبيعة هاتين الجريمتين، وما تبريرات العدوّ، وماذا يترتّب على ارتكابهما؟
طبيعة الجريمتين
الجريمتان متّفقتان من حيث طريقة ارتكابهما، ومختلفتان من حيث طبيعة هدفيهما. فكلتاهما حصلتا بواسطة قصف من قبل المعتدي؛ لكن إحداهما ارتُكِبت ضدّ قائد سياسيّ، والأخرى ضدّ قائد عسكريّ.
الجريمة الأولى: تمّت بالقصف بصاروخ مباشر، أو أكثر، أطلقها العدوّ من إقليم إحدى الدول المجاورة، إذاً هو قصف لأراضي دولة من قبل قوّات دولة أخرى. وهذا ينطبق على الفقرة 2/ب من المادّة 8 مكرّر من النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، و (المادة 3/ ب) من قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة رقم 3314 (1974)، اللتين تذكران من بين أعمال العدوان: «قصف القوّات المسلّحة لدولة ما أراضي دولة أخرى، أو استخدام أيّ سلاح من قبل دولة ضدّ أراضي دولة أخرى».
الجريمة الثانية: جرت بصاروخ، أو أكثر، محمولة على طائرة مُسيّرة، انطلقت من إقليم العدوّ. وأيّاً تكن النظريّات الخاصّة بالطائرات المُسيّرة، يبقى أنّ صاروخاً أو صواريخ، أطلقها العدوّ على أرض لبنان، وهو ما يشكّل فعل عدوان بناء عل ما ورد في الفقرة السابقة.
قد يطرح العدوّ أنّه استهدف هدفاً عسكريّاً. والسؤال: ما ذنب الساكنين الآخرين المدنيّين في البناء الذين قتل وجرح منهم حوالي ثمانين شخصاً بين أطفال ونساء وغيرهم؟
لكن كي تعدّ الجريمة جريمة عدوان، يجب أن يشكّل الفعل «من حيث طبيعته وخطورته واتّساعه خرقاً واضحاً لميثاق الأمم المتّحدة» (م 8 مكرّر/1 من ميثاق روما للمحكمة الجنائيّة الدوليّة). إنّ هذا الفعل، إذا ما وضعناه في الإطار الذي حصل فيه، فإنّه يشكّل بطبيعته وخطورته واتّساعه خرقاً واضحاً لميثاق الأمم المتّحدة ولقانون الحرب بشقّيه: القانون الدوليّ الإنسانيّ (قانون سير العمليات العسكريّة in bello)، وقانون شنّ الحرب ad bellum، ويحتوي كافّة أنواع الجرائم الدوليّة الخطيرة.
فهو يأتي ضمن العدوان الحاليّ على غزّة، بكلّ ما يرتكبه العدوّ فيه من جرائم، وضمن الحرب المستمرّة والمتمادية والمخطّطة على فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، التي ترتكب فيها جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وجرائم القضاء على شعب بصفته القوميّة والدينيّة والإثنيّة genocide وأخطر من كلّ ذلك، جريمة إلغاء وطن واستبداله. وهو جريمة حرب وجريمة ضدّ الانسانيّة.
جريمة حرب: إنّ اغتيال السيّد إسماعيل هنيّة فعل قتل عمديّ، أدّى إلى قتل شخص أو أكثر من ضمن حوالي أربعين ألف شخص من شعبه قتلوا في غزة، ومن ضمن مئات آلاف الأشخاص قتلوا في الحرب الدائرة منذ 1948 على الأقلّ، ما يجعلها جارية في إطار خطّة وسياسة عامّة وفي إطار عمليّة ارتكاب واسعة النطاق، كما تتطلّبه المادّة 8/1 من نظام روما الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة.
جريمة ضدّ الإنسانيّة: استهدف القصف على طهران شخصاً مدنيّاً هو رئيس المكتب السياسيّ لحركة حماس، كما قلنا، وهو لا يقود العمل العسكريّ ولا يشارك فيه، إذ يتّهم الصهاينة غيره بقيادة العمل المقاوم، المجاهد محمّد ضيف والمجاهد يحيى السنوار. وكان السيّد هنيّة يقوم بمهمّة سياسيّة، وهو قُتِلَ عمداً وتنطبق عليه المادّة 7/1/أ من نظام روما للمحكمة الجنائيّة الدوليّة. لكن المادّة المذكورة تشترط أن يأتي ذلك في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجيّ موجّه ضدّ أيّ مجموعة من السكّان المدنيّين، وعن علم بالهجوم. وهذا الأمر متحقّق في العدوان الذي يشنّه العدوّ على غزّة اليوم وعلى كلّ فلسطين منذ 1948 على الأقلّ.
جريمة إرهاب، من ضمن جرائم التفجير والقتل العشوائيّ الهادف إلى دفع الفلسطينيّين إلى الهجرة وترك ديارهم وأملاكهم.
خرق مبدأ الضرورة العسكريّة: يفهم بالضرورة العسكريّة أن يكون هناك هدف إذا ضرب يؤدّي إلى نتائج حاسمة أو هامّة على الأقلّ في المعركة. فقد نصّت المادّة 57/2/3 من البروتوكول الأوّل الملحق باتّفاقيّات جنيف على أنّه يجب ان يمتنع عن اتّخاذ قرار بشنّ ايّ هجوم قد يتوقّع منه بصفة عرضيّة او يحدث خسائر في أرواح المدنيّين او إلحاق الإصابة بهم أو الاضرار بالأعيان المدنية أو أن يحدث خليط من هذه الخسائر والأضرار، ممّا يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكريّة ملموسة ومباشرة.
إنّ ما قام به العدوّ في الضاحية الجنوبيّة قد ألحق من الخسائر بالسكّان المدنيّين والأعيان المدنيّة ما يفوق بما لا يُقاس الفائدة العسكريّة إنْ وُجدت. وهو ما سوف نناقشه لاحقاً.
تبريرات العدوّ: زعم العدوّ أنّ ما قام به في الضاحية الجنوبيّة كان ردّاً على قصف الملعب في عين شمس.
وقد نفى حزب الله بشكل قاطع أن يكون أطلق صاروخاً بالاتّجاه المذكور، وقالت الجهات الصحافيّة الموثوقة إنّ ما تسبّب بمقتل الأطفال في ملعب عين شمس هو صاروخ صهيونيّ. وقد عوّدنا العدوّ الصهيونيّ على أنّه يفتعل حادثة ما ليبرّر ارتكاب ما يرتكبه.
ولو سرنا مع ادّعاءات العدوّ الكاذبة وناقشناها، نجد ما يأتي:
ماذا يعني الردّ؟ هو إمّا الانتقام représailles، أو الدفاع عن النفس، أو التدابير المضادّة contremesures
فالانتقام ضدّ المدنيّين والممتلكات المحميّة ممنوع بنصّ المادة 20 من البروتوكول الأوّل الملحق باتّفاقيّات جنيف لسنة 1949.
الدفاع عن النفس: جاءت هذه النظريّة مختصرة وغامضة في القانون الدولي؛ إلاّ أنّ ذلك لم يمنع بعض الفقهاء من تناولها، فقد رأى د. أنزيلوتّي D. Anzilotti أنّ «… الدفاع المشروع عن النفس هو عمل موضوعيّاً غير شرعيّ (لكنّه) يُرتَكب لدفع عنف فعليّ وظالم». ثمّ أن الدفاع عن النفس يجب أن يحصل أثناء الاعتداء لا بعده، لأنّه يرمي إلى دفع الاعتداء، ودفع الاعتداء لا يحصل بعد وقوع الاعتداء.
على أنه من أجل فهم أفضل لحقّ الدفاع المشروع، لا بدّ من العودة إلى قوانين العقوبات الوطنيّة؛ وكلّها تجمع على أنّ من يدلي بالدفاع المشروع عن النفس يجب أن لا يكون معتدياً،
فقد جاء في قانون العقوبات اللبنانيّ، المادّة 184: «يعدّ ممارسة حقٍّ، كلّ فعل قضت به ضرورة حاليّة لدفع تعرّض غير محقّ ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه».
وجاء في قانون العقوبات الفرنسيّ، المادّة 5- 122:
«لا يسأل جنائيّاً الشخص الذي، في مواجهة اعتداء غير مبرّر على نفسه أو على آخرين، يقوم في الوقت نفسه بفعل تقتضيه ضرورة الدفاع عن النفس عن نفسه أو عن الآخرين، ما لم يكن هناك تفاوت بين وسائل الدفاع المستخدم وخطورة الاعتداء.»
التدابير المضادّة: تدابير تتّخذ ضدّ المعتدي بعد أن يكون ارتكب الاعتداء لردعه ومنعه من أن يكرّره.
هذا الأمر جرّبه العدوّ، وهو بالتأكيد لم يكن يوماً ضحيّة اعتداء، وهو لم يجدِه نفعاً؛ فهذه حركة حماس قد اشتدّت قوّة بعد حملات العدوّ العسكريّة للقضاء عليها أو تأديبها على الأقلّ. وهذا حزب الله قد تضاعفت قوّته أضعافاً مضاعفة رغم كلّ ما تعرّض له من قتل قادته ناهيك بعناصره.
هذه التدابير، لكي تكون مقبولة قانوناً، يجب أن تقيّد بعدد من القيود ومنها:
ـ أن تكون ردّة فعل على فعل غير شرعيّ ارتكبته دولة أخرى،
ـ أن يكون هدفه الحصول على وقف العمل الضارّ والتعويض،
هذه القاعدة معترف بها على نطاق واسع في ممارسات الدول، وفي الفقه والاجتهاد القانونيّين.
العدوّ وشركاؤه
إنّ العدوّ الصهيونيّ ليس الفاعل الوحيد في الجرائم التي يقترفها، بل هناك شركاء فعليّون يدعمونه ويساندونه ويسهّلون له ارتكاب كلّ ما يرتكبه، من دول تمدّه بكلّ ما يمكّنه من إدامة عدوانه البربريّ، ودول تسمح له باستخدام إقليمها للوصول إلى الدول البعيدة نسبيّاً.
الإمداد بالسلاح بما في ذلك بالذخائر هو ما يمكّن العدوّ من الاستمرار، في اعتداءاته، وهذا موثّق منذ حرب حزيران 1967، حتّى اليوم. وقد بلغ عدد شحنات السلاح الأميركيّة إلى الكيان الصهيونيّ في عدوانه الحاليّ الآلاف؛ فبين 7 تشرين الأوّل وآذار كانت الشحنات في السفن بلغت 100 شحنة من أكثر أنواع الأسلحة تطوّراً وفتكاً. ناهيك بما تقدّمه دول الاستعمار القديم/ الجديد بريطانيا وفرنسا وهولندا… لجيش العدوّ.
وهذه مشاركة تامّة في كلّ ما يرتكب العدوّ بما في ذلك عمليّتا الاغتيال.
من جهة أخرى، استخدم العدوّ أرض دولة مجاورة لإيران ليطلق الصاروخ، أو الصواريخ، التي اغتالت السيّد إسماعيل هنيّة. وهذا من مصاديق جريمة العدوان، إذ نصّت (المادة 8 مكرّر/2/و)، من النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة على أنّ «واقعة سماح دولة بأن يستخدم إقليمها، الذي تضعه تحت تصرّف دولة أخرى، في أن ترتكب هذه الدولة (الأخرى) عملاً عدوانيّاً ضدّ دولة، ثالثة» يشكّل جريمة عدوان.
المسؤوليّة
يتحمّل العدوّ الصهيونيّ، مسؤولوه السياسيّون والعسكريّون، المسؤولية الكاملة عن الجريمتين اللتين ارتكبهما في لبنان وإيران، كما عن كافّة الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها، دون أدنى شكّ.
ويتحمّل المشاركون في التسليح وسائر أشكال المساندة المادّيّة التي تمكّن جيش العدوّ من متابعة عدوانه، الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا وفرنسا وهولندا وكلّ من يقدّم المساعدة في المجال العسكريّ، المسؤوليّة نفسها، بناءً على المادّة 30 من مشروع المواد حول مسؤوليّة الدولة، الموضوع من قبل لجنة القانون الدوليّ عام 2001.
على أنّ هنالك مسؤولية جنائيّة فرديّة للقادة، مدنيّين أو عسكرييّن، ومشاركيهم؛ وهي تقوم على الأساس القانونيّ الآتي:
1 ـ النظام الأساسيّ لمحكمة نورمبرغ، المادّة 8، التي تنصّ على: «أن تصرّف المتّهم وفقاً لتعليمات حكومته أو رئيسه لا يعفيه من مسؤوليّته، ولكن يمكن اعتباره سبباً لتخفيف العقوبة، إذا قرّرت المحكمة أنّ العدالة تقتضي ذلك».
2 ـ البروتوكول الأول: المادة 86، والفقرة 2 من المادة 87.
3 ـ المادّة 28 من النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، حول واجب القادة.
هذه المسؤوليّة مسؤوليّة اتّفاقيّة وعرفيّة؛ أكّدت ذلك المحاكم الجنائيّة الدوليّة، عندما تصدّت للمسؤوليّة الجنائيّة الفرديّة عن ارتكاب الجرائم من قبل العسكريّين أو المدنيّين. ونذكر، على سبيل المثال، قضية «المدّعي العامّ ضدّ ديلاليتش»، في القرار الصادر عن دائرة الاستئناف، في محكمة يوغوسلافيا في 20 شباط 2001، الفقرة 195 وما يليها، التي تنصّ على أنّ «… مبدأ مسؤوليّة الرئيس التسلسليّ المنصوص عليها في المادّة 73 من النظام الأساسيّ تنطبق على القادة السياسيّين وعلى غيرهم من الرؤساء المدنيّين في مواقع السلطة… إنّ مبدأ مساءلة الرؤساء العسكريّين أو غيرهم من القادة عن أفعال مرؤوسيهم هو مبدأ راسخ في القانون الاتفاقيّ والعرفيّ».
بناءً على ما تقدّم، علينا في محور الممانعة أن نتقدّم بدعاوى ضدّ المجرمين من الأفراد جميعاً، وعلى الدول المشاركة للعدوّ في عدوانه، أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة وأمام المحاكم الوطنيّة ذات الصلاحيّة العالميّة، على أن يترك لمن اعترفوا بالكيان الصهيونيّ رفع دعوى ضدّه إذا تجرّأوا.