أولى

جورج قرم ثائر ينفر من الصخب

‭}‬ بشارة مرهج
بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجاز رحل معالي الدكتور جورج قرم، السياسي الذي شرّف السياسة بمواقفه النزيهة، وأثرى المكتبة العربية بكتبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أبدع في كتابتها من منظور استراتيجي جعلها أداة تفاعلية موحدة في خدمة التغيير وتجديد مسيرة المجتمع على أسس علمية تقدمية.
كان همّه كشف الحقائق للجمهور ودحض أضاليل الفئات الحاكمة التي كان يعرف عيوبها وجشعها ويشعر بخطرها على بنية المجتمع وحيويته. فقد جرّد الوزير المثقف قلمه بوجه الاحتكار ومظاهر الانحطاط مُعرّياً ضحالة الليبرالية الجديدة وممارستها المتوحشة التي لا تستأهل سوى التصدي والمحاربة كونها تحرم المجتمع من طاقاته وقدراته الإنتاجية وتبث فيه سموم القعود والانحطاط، فقلمه لم يعرف بلاط السلطان، وإنما كان دائماً رفيق المثقفين في معاناتهم وزميل الباحثين في سعيهم الى الحقيقة مهما عرّضهم ذلك الى النقد المأجور والتحامل المكشوف.
فقد تمرّس قرم منذ يفاعته على قول الحقيقة والدعوة لها بحيث تقترن نهضة المجتمع، التي يتطلع اليها في كلّ خلجة من خلجات قلبه، وكلّ خطوة من خطواته، بالقيَم السامية التي يختزنها التراث العربي في ثناياه واطلالاته وتجلياته.
فجورج قرم كان من رواد العروبة التقدمية الحضارية، تطلع اليه والى صداقته الصافية طلاب وأساتذة عرب من كل الأقطار بعد ان تيقنوا من سلامة قصده وغزارة علمه وإتقانه فن الكتابة والتواصل على إيقاع التواضع والرغبة الجارفة في الارتقاء بالمجتمع وتحرير المواطن من كلّ مظاهر الاستتباع والتقليد البالية.
لذلك تخطت كتاباته الاستراتيجية المسائل التقنية والمدرسية والشخصية لتخاطب قضايا المجتمع والحضارة الإنسانية فأنارت الطريق أمام الأجيال الجديدة وحفّزتها على النضال الفكري والسياسي وكسر مقولات وممارسات الأجنبي المستعمر وجماعاته المحلية التي أدمنت التسلط والاحتكار.
إنّ المنتدى الاقتصادي الاجتماعي الذي شاركنا الراحل جورج قرم في تأسيسه ومن ثم ترؤسه لمدة طويلة يشعر اليوم بكلّ أعضائه بالخسارة الكبيرة لغياب هذا المفكر اللبناني الذي عرف كيف يجمع بذكائه الحادّ وعقله المنفتح بين مختلف العلوم ويتوسّلها لخدمة الحقيقة وخوض معركة الإصلاح والتنمية التي تتضافر قوى الاستعمار والرجعية على قطع الطريق عليها بتدخلات وحروب لا تتوقف حتى تبدأ من جديد على شعبنا واستقلالنا ومواردنا.
لقد دعا جورج قرم دول العالم الثالث، مركّزاً في الوقت نفسه على العالم العربي، إلى وعي المشاكل الكبرى التي تواجهها هذه الدول النامية واقتحام مسالك التنسيق والاتحاد في ما بينها لتعزيز قدرتها على مجابهة الطرف المعادي الذي يُصرّ على تعميق الحفرة لنا وتكبيلنا بقيود الانحطاط وخداعنا بخيوط واهية تفرزها المتغيّرات الحديثة للإطباق على عقولنا وإمكانات أجيالنا الطالعة التي تتراكم على كاهلها الديون كما المهمات التاريخية لطرد الاستعمار من أرضنا وشق طريقنا المستقلّ نحو الحرية والبناء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى