الارتكازات القانونية للإجراءات اليمنية في البحر الأحمر
حسن عقيل*
أثارت الإجراءات، التي بادرت إليها حركة «أنصار الله» اليمنية بمنعها السفن «الإسرائيلية» وتلك المتّجهة من وإلى موانئ الكيان الصهيوني من المرور في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إشكالية قانونية تتمثّل بمدى توافق هذه الإجراءات مع أحكام قوانين الحرب والمعاهدات الدولية ذات الصلة. وتفترض مقاربة هذه المسألة النظر إليها من خلال أسبابها، أي الهجوم «الإسرائيلي» على غزّة وما رافقه من تدخّلات دوليّة داعمة للعدو.
جاءت عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، كردٍّ على جرائم الاحتلال الصهيوني المستمرّة بحقّ الشعب الفلسطيني، منسجمة مع قرار الأمم المتّحدة رقم 2649 الصادر عام 1970 الذي أكّدت فيه على «شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الإستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقّها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحقّ بأية وسيلة في متناولها».
أمّا الاعتداء «الإسرائيلي» الأخير على غزّة فأقلّ ما يُقال فيه إنّه شكّل انتهاكاً فاضحاً للقوانين والمعاهدات الدولية نظراً لعمليات القصف والقتل والأسر والتنكيل والتجويع والتشريد والترحيل التي فاقت كلّ تصوّر، والتي ينطبق عليها وصف جريمة الإبادة ضدّ «جنس بشري» وكلّ أنواع جرائم الحرب التي تعاقب عليها القوانين الدولية. وشكّل تدخّل الولايات المتّحدة والدول الغربية في الحرب إلى جانب الكيان الإسرائيلي ودعمها المطلق له مخالفة لميثاق الأمم المتّحدة، ممّا جعل هذه الدول شركاء مع العدو في حرب الإبادة الممنهجة التي يرتكبها ضدّ المدنيين العزّل.
لم يكن اليمن، الذي عانى كثيراً من وحشية الحرب التي فُرضت عليه، ليتدخّل دعماً لغزّة لو أنّ العدو لم يرتكب كلّ هذه الجرائم، ولو أنّ الغرب تصرّف بمسؤولية تجاه هذه الحرب. أمّا وقد أظهرت مجريات الأحداث أنّ الحرب على غزّة أكثر من مجرد عملية عسكرية محدودة، وأنّها تهدف إلى القضاء على كلّ أشكال الحياة في غزّة، إضطرّ اليمنيون، كما باقي الفرق المنضوية في محور المقاومة، لنصرة الشعب الفلسطيني المظلوم.
إذاً، كان الاعتداء «الإسرائيلي» الهمجي على غزّة، والدعم الغربي اللامحدود للكيان «الإسرائيلي» سبباً مباشراً للتحرّك اليمني، حيث أعلن السيد عبد الملك الحوثي في 10/10/2024 استعداد حركة أنصار الله لدخول الحرب باستخدام الصواريخ والطائرات المُسيّرة، واتّخاذ خيارات عسكرية أخرى في حال تدخّل الولايات المتّحدة الأميركية بشكل مباشر إلى جانب «إسرائيل» في حربها على قطاع غزّة.
وبالفعل فإنّ القوات اليمنية لم تبادر إلى أيّ فعل حربي إلّا بعد التدخّل الأميركي، عندها أعلنت القوات المسلّحة اليمنية في 31/10/2023 دخول الحرب إلى جانب الفصائل الفلسطينية في قطاع غزّة.
جاء دعم الغرب للكيان الصهيوني مطلقاً، على عكس الإعلان اليمني عن نصرة الفلسطينيين. فقد حدّد المتحدّث باسم «جماعة أنصار الله» أنّ عملياتها ضدّ الكيان «الإسرائيلي» وتصدّيها للسفن المتّجهة إلى «إسرائيل» ستستمرّ ولن تتوقّف إلّا بعد أن توقف «إسرائيل» عدوانها على قطاع غزّة. وبهذا الإعلان حصر اليمنيّون إجراءاتهم بالسفن المتّجهة إلى الكيان «الإسرائيلي» فقط، كما حدّدوا زمن المعركة بتوقّف العدوان على غزّة.
ولم تتصاعد وتيرة الإجراءات اليمنيّة إلا بعد أن أفشلت الولايات المتّحدة قراراً في مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزّة، وأعلنت عن صفقة جديدة من السلاح للعدو «الإسرائيلي» لتمكينه من مواصلة جرائمه ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل. عندها أعلنت حركة أنصار الله في بيان لها استمرارها في «منع السفن المرتبطة بإسرائيل أو السفن المتوجّهة إلى موانئ فلسطين المحتلّة من الملاحة في البحرين الأحمر والعربي حتى إدخال ما يحتاجه إخواننا في قطاع غزّة من غذاء ودواء»، وأكّدت «استمرار حركة الملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب إلى كافّة أنحاء العالم باستثناء موانئ فلسطين المحتلّة».
واعتبر الناطق باسم جماعة أنصار الله أنّ هذه الإجراءات هي «تدشين معادلة الحصار مقابل الحصار، حصار السفن «الإسرائيلية» والتي تتعامل مع «إسرائيل» في مقابل الحصار المفروض على غزّة، على قاعدة المرور مقابل الغذاء والدواء، وبما يلبّي الاحتياج الإنساني في غزّة، وأنّ المعادلة تأتي رداً عملياً على خطوة واشنطن بإفشال مشروع قرار وقف إطلاق النار في غزّة وعلى جرائم الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني».
يعتبر التدخّل اليمني متوافقاً تماماً مع البند 4 من قرار الأمم المتّحدة رقم 3236 تاريخ 22/11/1974 الذي نصّ على أنّ الأمم المتّحدة «تعترف بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكلّ الوسائل»، وتطبيقاً أميناً للبند 5 من هذا القرار الذي بموجبه «ناشدت» المنظّمة الدولية «جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمدّ بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق».
يفرض هذا النصّ الأممي على العالم الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في سعيه لاستعادة حقوقه، ومن باب أولى الدفاع عنه في مواجهة ما يلحقه من ظلم. وبالتفسير المعاكس لمندرجات القرار فإنّ كلّ دولة لا تمدّ الشعب الفلسطيني بالدعم في كفاحه لاسترداد حقوقه تكون قد خالفت إرادة المجتمع الدولي وانتهكت قراره. وبناء عليه، تكون «جماعة أنصار الله» وإخوانها في محور المقاومة هم وحدهم من تقيّد بالقرار الدولي رقم 3236 في حين أنّ الغرب وفي مقدّمته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا قد ضربوا القرار المشار إليه بعرض الحائط، وهذا دأبهم في القرارات التي تجافي غاياتهم والغايات «الإسرائيلية».
لم تتعسّف القوات اليمنية في إجراءاتها العسكرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بل التزمت القواعد التي نصّ عليها «دليل سان ريمو»، الذي يحكم النزاعات المسلّحة في البحار ومسائل القتال والحصار البحري، فتطبيقاً لهذه القواعد أعلن اليمن على لسان أحد مسؤوليه (محمد عبد السلام) أنّ «البحر الأحمر آمن للجميع باستثناء السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي. وأنّ العمليات تستهدف السفن «الإسرائيلية» والمرتبطة بالموانئ المحتلة فقط». وبدوره قال وزير الإعلام في حكومة صنعاء ضيف الله الشامي: «لكلّ السفن التي تمرّ عبر البحر الأحمر وباب المندب نقول: اعبروا بسلام آمنين» موفّراً بهذا التصريح عنصر الأمان للسفن المحايدة.
وفقاً لهذه التصريحات أكّد اليمنيّون تقيّدهم، في الحصار الذي فرضوه، بالموجب المحدّد في البند 1 من دليل سان ريمو الذي نصّ على أن «تلتزم الأطراف في أيّ نزاع مسلح في البحار بقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني اعتباراً من تاريخ استخدام القوّة المسلّحة»، إذ لم يقم اليمنيون بأيّ عمل لا إنساني ضدّ بحّارة السفن التي حاولت خرق الحصار. والتزموا قواعد البند 15 التي نصّت على عدم جواز انتهاك المياه المحايدة.
واحترم اليمنيون ما ورد في النبذة ج من البند 46 من الدليل، التي أوجبت على المقاتل اتّخاذ «كلّ التدابير الممكنة في اختيار الوسائل والأساليب لكي يتفادى أيّ خسائر أو أضرار إضافية أو يقلل من جسامتها»، فراعوا هذا الموجب كما لم يفعل أيّ جيش في العالم، وتفادوا كلياً خرق البند 67 من الدليل الذي نصّ على عدم جواز «مهاجمة السفن التجارية التي ترفع علماً محايداً…»
وكانت جماعة «أنصار الله» قبل البدء بإجراءاتها قد أعلنت عن الحصار وأبلغته في الإعلام «لكلّ المحاربين والدول المحايدة»، كما يفرض البند 93 من الإعلان المشار إليه. وحدّدت في الإعلان «تاريخ بداية الحصار ومدّته (وقف الحرب على غزّة) ومكانه (البحر الأحمر وبحر العرب ومضيق باب المندب) ونطاقه (السفن الإسرائيلية والسفن المتّجهة من وإلى الموانئ المحتلّة)»، وهي الشروط التي أوجبها البند 94 من الإعلان. حتى أنّ احتجازها لبعض السفن التجارية جاء متوافقاً تماماً مع البند 98 الذي نصّ على أنه «يجوز احتجاز السفن التجارية التي يفترض بصورة معقولة أنّها تنتهك الحصار. وتجوز مهاجمة السفن التجارية التي تقاوم احتجازها بوضوح بعد إنذارها مسبقاً».
يثبت ما تقدّم الغايات النبيلة التي تكمن خلف إجراءات جماعة «أنصار الله»، وهي نظراً لنبلها لاقت تأييداً واسعاً من الشعوب العربية والإسلامية، في حين أنّ التظاهرات الشعبية في الدول الغربية عمّت الشوارع تنديداً بالجرائم الصهيونية والدعم الغربي اللامحدود للعدو «الإسرائيلي»، بعد أن تبيّن لشعوب هذه الدول كذب الافتراءات «الإسرائيلية» والغربية في عرضها للوقائع الميدانية.
في الختام، قد يكون اليمن الجهة الوحيدة في هذا العالم التي تقيّدت بالقوانين الدولية في حربها البحرية التي لم تبغِ منها أيّ مصلحة خاصّة سياسية أو اقتصادية، بل غايتها الوحيدة هي وقف العدوان على شعب أعزل يتعرّض لأبشع عمليات القتل والتنكيل والتجويع والتشريد لدفعه إلى التخلّي عن حقّه وأرضه والعيش بسلام كما كلّ شعوب الأرض.
*حقوقي