إلى الخائضين في حديث الحرب… إهدأوا
يوسف هزيمة*
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الحرب، وانشغلت الأوساط الشعبية والرسمية في لبنان والعالم العربي، بل العالم كافة، بتداول مصطلحات من قبيل الحرب الشاملة، الحرب الإقليمية، الحرب الكبرى. ووصل الأمر ببعضهم إلى تداول بل توقع الحرب العالمية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتمّ فيها التداول بتلك المصطلحات المتصلة بالحرب، وهي، وإنْ كثر فيها التداول بقوة منذ العمليتين الإرهابيتين في ضاحية بيروت الجنوبية وشمال العاصمة الإيرانية في أواخر الشهر المنصرم، إلا أنّ تداول مصطلح الحرب بكلّ فروعها وأقسامها وأحجامها.. يعود إلى الأيام الأولى للعمليات الإجرامية على غزة، ونعني بها ما أطلق عليه الصهاينة عملية «السيوف الحديدية». ففي الأيام الأولى لتلك الحرب التدميرية التي شنّها الصهاينة على غزة ومشاركة المقاومة في لبنان بعمليات إسناد دعماً لغزة، في الأيام الأولى تلك، راحت تتردّد مصطلحات الحرب الكبرى، وخاصة مع تصاعد المناوشات والضربات بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني، فكانت الحرب الشاملة تحضر متربعة على عرش المناقشات والسجالات السياسية بقوة لتتراجع ويخف الحديث عنها وفيها، مع تراجع وخفّة وتيرة الحوادث.
ولكن في الأسابيع الثلاثة الفائتة ارتفع منسوب التوتر، ومعها الحدة في التداول بالحرب بكلّ معانيها، وانعكس ذلك عملياً لدى الكثير من المواطنين الذين تركوا مناطق يسكنونها في الجنوب والضاحية، والتجأوا إلى مناطق أخرى وجدت في تلك السجالات عن الحرب وتوسيعها فوائد اقتصادية جمّة، وازدهرت معها تجارة تأجير البيوت، حديثها وقديمها، جديدها وعتيقها، كبيرها وصغيرها.. وما رافقها من استغلال عند بعضهم الذي وجد في الترويج للحرب الكبيرة فوائد اقتصادية كما أسلفنا، وهو نفسه حصد الفوائد نفسها منذ حوالي عشرة أشهر.
وحتى لا نطيل، وعوداً على بدء، فإنّ الحرب واسعة أو ضيقة، شاملة أو محدودة، كبيرة أو صغيرة، هدّد بها الصهيوني منذ الأيام الأولى لانخراط المقاومة في لبنان بإسناد غزة، حتى انه لم يمرّ يوم واحد دون أن يطلق الصهاينة التهديدات، ولكن التهديدات بقيَت تهديدات، ولم تتحوّل ولن تتحوّل إلى فعل، وفي هذا السياق يمكن تسجيل الآتي:
1 ـ بالمقارنة بين ما يجري على الجبهة الجنوبية اللبنانية وشمال فلسطين اليوم وبين ما كانت عليه منذ عشرة أشهر، فإنّ الأمور، وإنْ تطورت، ولم يعد ما يجري مجرد مناوشات أو ضربة محدودة مقابل ضربة محدودة، إلا أنها ما زالت منضبطة، وما زالت ضربة بضربة، ولكن مع فارق انّ الضربات باتت أقوى ورقعتها وميدانها أوسع.
2 ـ قد يقول قائل إنّ «الإسرائيلي» تجاوز حدود الاشتباك، وتمادى وذهب بعيداً وأنّ المقاومة أيضاً ذهبت بعيداً ولم يقتصر استخدامها على 5% من قدراتها وإنما 15% كما أشار خبراء عسكريون. والقول هذا صحيح، ولكنه لا يوضع إلا في خانة التصعيد وارتفاع منسوب التوتر، وليس مدعاة أو مؤشر على حرب بما تعني الحرب.
3 ـ ثمة من يرى في ما أقدمت عليه «إسرائيل» أواخر الشهر الماضي عملاً خطراً، هو مؤشر أو نية حرب واسعة. الجواب صحيح أنه عمل خطر وذلك لا نقاش فيه، ولكن هل هو سيذهب بالأمور إلى الحرب الكبيرة؟ لعلّ الجواب سارع إليه «الإسرائيلي» نفسه بعد ضرب الضاحية مباشرة، بأنه لا يريد الذهاب بالأمور بعيداً، وأنّ ما أقدم عليه، بحسب زعمه، هو ردّ على ما حدث في مجدل شمس، الذي كان بسببه هو…
4 ـ الذين يتخوّفون من الحرب الكبيرة أو يتوقعونها، إنما يبنون على ردّ المقاومة الذي لن تبتلعه «إسرائيل» وسترد عليه ما يجعل الأمور تنفلت، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقاومة أعلنت غير مرة أنها ستردّ، ولكن ستدرس الردّ جيداً بما لا يعطي فرصة أو مبرّراً للصهيوني ان يذهب بالأمور بعيداً، وهنا من المفيد الالتفات إلى أمرين:
*أوّلهما أنّ ردّ المقاومة المدروس لا يعني انه سيكون ضعيفاً ولا يعني في آن أنه سيكون سريعاً، فبين المقاومة والكيان الإسرائيلي دفتر حساب طويل، ولا تقرأ الأمور العسكرية هنا إلا من زاوية تسجيل النقاط.
*ثانيهما: إنّ الصهيوني لا يحتاج إلى مبرّر كي يقوم بعمل عسكري واسع، والتجارب معه تؤكد ذلك منذ حرب تموز، وما قبلها. وطالما ذكرنا حرب تموز فإنه اليوم ليس أقوى من تموز، وليست المقاومة بأضعف.
5 ـ هناك من يستند في رأيه إلى أنّ الحرب الكبيرة واقعة لا محالة، لأنّ قراراً اتخِذ بعد ما سُمّي بـ صفقة القرن للتخلص من حركات المقاومة التي تقف عقبة أمام مشروع «التطبيع»، وتالياً أن عملية السيوف الحديدية، ليس صحيحا أنها ردّ على عملية طوفان الأقصى، بل هي مخطط لها من قبل.
جواباً على ذلك، وبشكل سريع: أميركا ومن يدور في فلكها، يخططون يقرّرون، ولا شك أنّ محور المقاومة يشكل العائق أمام ما يسمّى التطبيع، ولا شك أيضاً أنهم يودّون التخلص من هذا العائق، ولكن نيّاتهم شيء وتحويلها إلى واقع ملموس شيء آخر، ويكفي صمود غزة عشرة أشهر ونصف… عشرة أشهر ونصف، لم يستطيعوا الحسم في غزة، فما بالكم بجنوب لبنان ولبنان كله ومحور المقاومة؟!
في الخلاصة، بين الكيان الصهيوني وبين المقاومة في لبنان، وباقي المحور، ثمة توازن رعب، وإنْ كانت «إسرائيل» متفوقة بـ طائراتها الحربي منها والمُسيّر وفي الاغتيالات، فإنّ المقاومة، بشهادة الخبراء العسكريين الصهيونيين، متفوّقة في الميدان، وعينُها على الجليل الذي لن تجد صعوبة في السيطرة عليه مع بدايات نشوب حرب حقيقية واسعة.
وفي الختام فإنّ المقاومة حريصة على أهلها، واللبنانيون كلهم أهلها، ولن تقدم على خطوات من شأنها جرّ الإسرائيلي إلى حرب كبيرة. ولكنها في الوقت نفسه لن تسمح له بالتمادي على جرائمه وخاصة جريمة الضاحية، التي ستردّ عليها والأيام، ولو طالت، ستنبئ العدو «الإسرائيلي» وأعداء الداخل، الذين نشروا في زواريبهم وشوارعهم الضيقة، انّ لبنان لا يريد الحرب، قاصدين انه لا يريد نصرة غزة، بل لا يريدون هم نصرة غزة، وهم اليوم متحمّسون للحرب، ولكن حرب «الإسرائيلي» على لبنان ومقاومته، ولا حديث عندهم في الآونة الأخيرة يعلو على حديث الحرب… فيا أيها الخائضون في حديث الحرب: إهدأوا.
*كاتب وباحث سياسي لبناني