حتى لا تُكرَّر كارثة أوسلو ثانية!
د. عدنان منصور*
إنها الحرب العربية الفعلية الأولى التي يخوضها المقاومون في فلسطين ولبنان منذ عشرة أشهر ونصف الشهر، ضدّ «إسرائيل» التي اعتادت أن تخوض حروبها خارج الأرض المحتلة، وتحقق الانتصارات العسكرية الساحقة خلال أيام معدودة ضدّ دول عربية مجتمعة دون ان يتعرّض كيان الاحتلال من الداخل لأيّ اهتزاز أو تداعيات سياسية أو اقتصادية أو أمنية.
كانت «إسرائيل» في كلّ مرة تخرج منتصرة مزهوّة أمام العالم وبالذات أمام «الإسرائيليين»، لتضخ في نفوسهم المزيد من الثقة والالتفاف حول قيادتهم.
جاءت المقاومة في غزة، وفي جنوب لبنان، لتكسر المعادلة العسكرية بالصميم، وتخلخل جذور الكيان القائم على التفوّق العسكري النوعي والحاسم على الدول العربية منفردة أو مجتمعة.
ما أراده نتنياهو في اليوم التالي لطوفان الأقصى، حسم الحرب في غزة خلال أيام قليلة، واستسلام المقاومة، ومن ثم القضاء نهائياً عليها، وطيّ صفحتها الى الأبد، إلا انّ الصمود الأسطوري للمقاومة قلَب المقاييس، ومرّغ أنف القيادة السياسية والعسكرية «الإسرائيلية» في تراب غزة.
ما كان نتنياهو ينتظر مفاوضات من هنا او هناك، بل كان متأكداً من الحسم العسكري وتحقيق أهدافه كاملة، لكن فشله في الميدان في تحقيق نصر ما، والمجازر والإبادة الجماعيّة التي نفذها، والمظاهرات الصاخبة التي اندلعت في دول عديدة تندّد بالعدوان، وتطالب بوقف المجازر الوحشية، كشفت حقيقة دولة الإرهاب للعالم كله، ما دفع في نهاية الأمر بالولايات المتحدة «الوسيط النزيه» بذل «مساعيها الحميدة» كي تعمل على إنقاذ حليفها وتعويمه وفق آليّة تخدم «إسرائيل»، قبل أن تنقذ الفلسطينيين من الإبادة والدمار.
لا يتصوّرنّ أحد أنّ واشنطن بعيدة عما يحلّ بالفلسطينيين من قتل وتجويع وتشريد وحصار.
هي شريكة في كلّ ما يجري على أرض غزة، وهي الداعمة للكيان منذ اليوم الأول للحرب مالياً وعسكرياً ولوجستياً واستخبارياً، وكانت على مدى عقود الغطاء الدائم في مجلس الأمن لكلّ تجاوزات «إسرائيل» للقانون الدولي، وللقرارات الأمميّة ذات الصلة بالفلسطينيين.
ما كانت الولايات المتحدة يوماً وسيطاً نزيهاً، حيادياً، على مسافة واحدة من المتنازعين، كي تعالج المشاكل المتفجّرة الحساسة بموضوعية وضمير حي. كيف تكون حيادية ورئيسها يعتبر نفسه صهيونياً حتى النخاع، ومنحازاً كلياً لـ «إسرائيل»، ويقرّر أثناء مفاوضات وفده في قطر على بيعها أسلحة بقيمة 20 مليار دولار؟!
واشنطن «الوسيط النزيه» ألم تعارض بشدة أثناء المفاوضات في أوسلو، لحظ القرار الأممي 194 القاضي بعودة اللاجئين الى ديارهم، ولم تكتف بهذا القدر، بل تجاهلت حقوق الفلسطينيين؟!
أليست الخارجية الأميركية التي أصدرت الكتاب الأبيض عام 1993 بعنوان «إعلان مبادئ» لمحت فيه الى ان واشنطن تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة أرضاً متنازعاً عليها، وليست أرضاً محتلة؟!
في غزة يتقرر اليوم مصير فلسطين. إذ أن مطالب حماس المحقة لا تلتقي مع مطالب نتنياهو التعجيزية. ليست واشنطن من يفرض الضغوط على نتنياهو، بل على العكس، وهو الذي قال مؤخراً، لو أننا خضعنا للضغوط (الأميركية) لما كنا اليوم في محور فيلادلفيا ونتساريم ورفح!
ما يريده نتنياهو من المفاوضات هو وقف مؤقت للحرب بغية تبادل الأسرى، وبعدها سيعمد مجدّداً للذهاب بعيداً في حربه، واستئنافه للإبادة الجماعية، والقضاء على المقاومة كلياً بمباركة أميركية أوروبية، والسيطرة الدائمة على محور فيلادلفيا ورفح، والتحكم العسكري والأمني بقطاع غزة، وتجريده من مقاومته، وإخضاع تنقلات سكانه لقرارات السلطة العسكرية الإسرائيلية، هذا إذا كان في نية مجرم الحرب إبقاؤهم في القطاع !
واشنطن و»إسرائيل» تعتبران انها الفرصة التي لن تتكرّر لتصعيد الحرب حتى تحقيق الهدف في احتواء المنطقة بغية الإمساك بأعناقها، وخنقها، والقضاء على المقاومات فيها، مهما كان الثمن عالياً. لذلك تبقى واشنطن الحليف والداعم والمشارك بلا حدود مع العدو، في كلّ مرة يشنّ فيها عدواناً على المقاومات في المنطقة.
في أوسلو اعترفت القيادة الفلسطينية بـ «إسرائيل»، ولم تعترف «إسرائيل» بالفلسطينيين. في أوسلو تنازلت القيادة الفلسطينية عن حقوق كثيرة، قابلتها تل أبيب بتغيير الديموغرافيا في القدس والضفة الغربية ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات فيها والتي يبلغ عددها اليوم في الضفة 144 مستوطنة، مع أكثر من نصف مليون مستوطن.
في أوسلو اعتقدت القيادة الفلسطينية أنها ستنال دولتها المستقلة، فإذا بـ «إسرائيل» والراعي الأميركي يتركان الدولة الفلسطينية الصورية على قارعة طريق الاتفاقات الوهميّة.
عام 2001 مؤتمر هرتزليا، ومؤتمر ميثاق طبريا عام 2002، دعا للعمل على تهجير الفلسطينيين متجاهلاً كلياً اتفاق أوسلو، وما بعد أوسلو.
لماذا لا نصدّق ما يبوح به علانية قادة العدو عندما يكشفون عن نياتهم وشهيّتهم في السيطرة والتوسع؟! ألم يقل رئيس الحكومة «الإسرائيلية» مناحيم بيغن في حفل العشاء الختامي الذي ضمّ وزيري الخارجية الأميركي سايروس فانس، والمصري محمد ابراهيم كامل عام 1978: «إنّ العرب تمتعوا بحق تقرير المصير في إحدى وعشرين دولة، وهم يريدون أن ينشئوا دولة جديدة بتقرير المصير، ليقضوا على مصيرنا. إني أقولها صريحة عالية: «لا لتقسيم القدس… لا للانسحاب الى حدود 1967.. لا لحق تقرير مصير الإرهابيين».
هذا هو سلوك «إسرائيل» الإجراميّ الذي لم يتغيّر، من بن غوريون الى نتنياهو، سلوك قائم على القوة والقتل والإرهاب، والتوسّع، الذي لخّصه بيغين بقوله: «إنّ قوة التقدّم في تاريخ العالم هي للسيف، نحن نحارب إذا نحن نكون. ولولا النصر في دير ياسين، لما كانت دولة «إسرائيل»!
إنّها ساعة الحقيقة أمام الفلسطينيّين، حتى لا تتكرّر مأساة أوسلو، وتداعياتها المدمرة، ونشهد مجدداً نكبة ثانية تفوق النكبة الأولى لتختزل هذه المرة كل فلسطين، بدعم وتواطؤ أميركي أوروبي.
حرب غزة حرب مفصليّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أن تكون فلسطين أو لا تكون، ويجب أن تكون!
حيال المفاوضات الجارية اليوم، على مقاومة غزة أن تقول كلمتها المدوية باسم فلسطين والفلسطينيين، وباسم الشعوب العربية الأصيلة، وما تبقى من قادتها الشرفاء، انّ دولة فلسطين تشرق من غزة، لا من أوسلو ولا واشنطن، ولا «تل أبيب»!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق