حزب الله و7 أكتوبر: فرصة مشروطة أم ورطة مفتوحة؟ / حرب الوتيرة المتحركة أم الحرب المقيّدة؟
ناصر قنديل
نشرت مجلة عمران للعلوم الاجتماعية التي يُصدرها ويديرها الدكتور عزمي بشارة في عددها الأخير، دراسة للباحث وأستاذ العلاقات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا أدهم صولي بعنوان “بين الهوية والقلق والحرب، حزب الله وتراجيديا غزة”. وقد عرّفت المجلة الدراسة ولخصتها بالقول، “تستكشف هذه الدراسة اللغز المحيّر الكامن وراء انخراط حزب الله ضدّ الحملة العسكرية الإسرائيلية المستمرة على غزة، فتطرح أسئلة من قبيل: لمَ اقتصرت حربه على المنطقة الحدودية بين لبنان و”إسرائيل”؟ ولمَ لم ينخرط في قتال واسع مع “إسرائيل” شبيه بحرب عام 2006؟ ولمَ ولج الحربَ في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، على الرغم من القيود الداخلية والإقليمية كلها التي واجهها؟ وتعتمد الدراسة على نظرية الأمن الأنطولوجي، وعلى مجموعة من البيانات الأولية، وتخلص إلى أن حزب الله واجه مأزقًا: فإنْ هو امتنع عن دعم حلفائه الفلسطينيين، فسيهدّد ذلك أمنه الأنطولوجي (كينونته الأساسية، وسمعته، ودوره باعتباره حركة مقاومة)؛ وإنْ هو انخرط، خلاف ذلك، في حرب واسعة ضد “إسرائيل”، فسيعرّض أمنه المادي للخطر. وقصد التصدي لهذا المأزق، انخرط حزب الله في حرب مقيّدة، الهدف منها استعادة أمنه الأنطولوجي والحفاظ على تماسك محور المقاومة وبقائه؛ هذا المحور الذي ينتمي إليه على الصعيد الإقليمي. وحزب الله في قيامه بذلك، كان يسعى لرسم المستقبل أيضًا، على نحو ما تُحاجّ به هذه الدراسة”. أما هذا المقال المخصص لمحاجّة الدراسة فينطلق من مخالفة ما ورد فيها والاقتناع بأنه جزء من حملة متواصلة للتشكيك بخلفيّات ومصداقية ونوعية مشاركة حزب الله في حرب طوفان الأقصى، ولهذا سوف نناقش في هذا المقال ما ورد فيها.
تعتمد الدراسة على منهجيّة قد تصح في وضعية القوى الانتهازية، وليس القوى التي تشبه مواقفها تركيبتها، والتي تصدق القول بما تفكر، كحال حزب الله، وربما كان الهدف من تمرير هذه المنهجيّة في البحث حول تناقض البعد القيمي في صورة وسمعة حزب الله الذي يجبره على مساندة غزة، مع مصلحته بتفادي مواجهة خطرة على وجوده وما يرتبه ذلك من التهرب من خوض هذه المساندة، للوصول الى القول بنظرية الحرب المقيّدة، خلاصة تعبّر عن هذا القلق، إيصال القارئ دون أن يكون قد وافق على ذلك سلفاً، الى أن يتماهى مع منهج البحث والقبول بأن حزب الله تشكيل انتهازيّ في رسم خياراته، بما فيها ما يتصل قضيته المحورية التي يمثلها الصراع الوجودي مع كيان الاحتلال.
تطرح الدراسة سؤالاً تكرّره مراراً باعتباره إشارة مفتاحيّة للبحث في القلق المزعوم، ورد في التلخيص أيضاً، وهو “لمَ لم ينخرط في قتال واسع مع إسرائيل شبيه بحرب عام 2006؟”، والسؤال غير موجود بالأصل ومفتعل، لأن حزب الله لم ينخرط بقتال واسع في تموز 2006 إلا رداً على قتال واسع على جبهة لبنان تمثل باستهداف الضاحية الجنوبية والجنوب وبعض البقاع وبعض المنشآت اللبنانية الحيوية كالكهرباء والمطار بالقصف التدميريّ، ومحاولة اجتياح بريّ بوحدات النخبة والمدرعات للمنطقة الفاصلة عن نهر الليطاني، وهو قاتل دفاعياً في مواجهة هذا التهديد، ولم يذهب ابتداء الى القتال الواسع مع جيش الاحتلال، وهذا ما يؤكده اليوم بالقول إنه سيفعله إذا فعل الكيان ما فعله عام 2006، وليس في تاريخ حزب الله مرّة واحده تقول بأنه ذهب ابتداء الى قتال واسع مع جيش الاحتلال منذ تحرير الجنوب عام 2000.
الحرب المقيّدة، مصطلح آخر يتم تصنيعه للإيحاء بأن هناك سقفاً أعلى للحرب كان ممكناً لحزب الله اعتماده لكنه مقيد بعدم الذهاب اليه، وما هو القيد؟ هو الخشية من التعرّض للضرر في بنيته البشرية والعسكرية، سواء على يد جيش الاحتلال او على أيدي الأميركيين، وإذا دققنا بالمصطلح، فهو يفترض حرباً بوتيرة واحدة، هي الحرب المقيدة، بينما مشاركة حزب الله عبر جبهة جنوب لبنان لم تكن بوتيرة ثابتة، وهي وفق التوصيف الأدق حرب بوتيرة متحركة، مع احتمالات مفتوحة، ومصدر احتمالاتها المفتوحة سهل التبيان والإثبات من زاوية الافتراض، إلا إذا تبنى الباحث إسقاط هذه الفرضيات لأن الاحتلال هو من يخوض حرباً مقيّدة. وفي الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الذي أعلن فيه منهج الحزب في خوض الحرب، وأسماه منهج الربح بالنقاط، سقف وهدف، يمكن أن يذهب بهذه الاحتمالات المفتوحة نحو حرب شاملة، وهو التزام حزب الله بأن هزيمة حماس في غزة ممنوعة، ولم يكن معلوماً كم سوف تستمرّ الحرب وهل تستطيع حماس الصمود إذا طال أمد الحرب، فماذا كان سوف يحدث بالقلق المزعوم لو وضعت الحرب تحدياً اسمه أن منع هزيمة حماس يستدعي وتيرة أعلى بكثير للحرب، وألم يكن أفضل لنظرية القلق لو كانت محرّك موقف حزب الله، ان تجد ترجمتها بإعلانه الإسناد المبدئي لحماس وغزة دون الالتزام بمعادلة مفتوحة على حرب شاملة بلا ضوابط، يفرضها التعهد بمنع هزيمة حماس؟
الفرضية الثانية التي ربط بها السيد نصرالله الاحتمالات المفتوحة كانت استهداف المدنيين، وهنا أليس الأصح القول بأن حزب الله استطاع إثبات معادلة الردع وفرضها على جيش الاحتلال الذي اعتمد حرباً مقيدة، فرضها عليه القلق بين أمنه الأنطولوجي وأمنه المادي، فان صمت على فتح جبهة لبنان من قبل حزب الله فقد صورته التي تهشّمت في 7 أكتوبر بما يكفي، وإن خاطر بالتحرّك على طريقة غزة في جنوب لبنان قصفاً وقتلاً واجتياحاً، يعرّض جيشه للهلاك، بينما حزب الله يخوض حرب الوتيرة المتحرّكة وفق قواعد اشتباك يقوم بصياغتها هو ونجح لأحد عشر شهراً بفرضها وتحريك سقوفها وفقا لقراءته لمسار حرب غزة ومستلزمات الإسناد من لبنان.
حزب الله رسم استراتيجية واضحة، لا تستبعد احتمال الحرب الكبرى إذا تعرّض المدنيّون لاعتداءات كبرى أو تعرّضت حماس لخطر هزيمة، لكنه كان واضحاً أنه لن يذهب للحرب الكبرى ابتداء، وهذا ما كان موضع انتقاد من كثيرين ولا يزال، ربما لأن المطلوب أن يذهب حزب الله الى حرب المدن والسكان مع الكيان، فيخسر وتخسر معه فلسطين وغزة مرّتين، الدعم الداخلي اللبناني الذي يشكل جبهة داخلية متينة مقابل جبهة تتشظّى وتنقسم في الكيان، وهذه بذاتها معادلة ردع وجزء حيويّ من موازين القوى، وحزب الله يعلم أن لديه تفويضاً داخلياً في رد بلا سقوف ولا ضوابط اذا تعرّض العمق اللبناني للتهديد، والأخطر أن تخسر جبهة المقاومة وفي مقدّمتها فلسطين وغزة هذا التدفق في شوارع الغرب لصالح القضية الفلسطينية، فقط لإرضاء بعض الرؤوس الحامية، أو الذين يبحثون عن كيفية النيل من صدقيّة حزب الله.
السؤال حول ما يُسمّيه الكاتب بالأمن الأنطولوجي، أي السمعة والمعيار القيمي الهوياتي للحزب، ليس مطروحاً لسبب بسيط هو أن الحزب تعامل مع طوفان الأقصى كفرصة لا كورطة، لكنها فرصة مشروطة بحسن التدبّر، بما يسمّيه بمعادلة الصبر والبصيرة، أي امتلاك رؤية استراتيجية لكيفية تبديد مصادر القوة التي تجمعت للكيان غداة الطوفان، من جهة، وفتح نافذة للتراجع أمامه اسمها اتفاق مع المقاومة في غزة لوقف الانهيار عندما يتيقن من خسارة مصادر قوته، من جهة مقابلة، والاستعداد لرفع الوتيرة تدريجياً، بما في ذلك فرضية الحرب الكبرى، وفق معادلة الاحتمالات المفتوحة بناء على مساري الحرب في غزة وأمن العمق اللبناني والمدنيين في الحرب، أما ما صنّفه بمصادرة القوة التي تجمعت للكيان، فهي الحشد الدولي السياسي والشعبي والإعلامي والعسكري، والتماسك الداخلي على مستوى النخب السياسية والرأي العام وراء الحكومة والجيش وخيار الحرب بلا سقوف، ويمكن لبحث أن يكون مجدياً إذا اهتم برصد الخط البياني لمصادر القوة هذه وكيف تبدّدت خلال أحد عشر شهراً من الحرب، بفضل استراتيجية الربح بالنقاط، والنجاح عبر تحويل التحدّي إلى فرصة تحتاج إلى حسن الإدارة، كما نظر حزب الله للطوفان، وليس كورطة تستدعي القلق من الانخراط الكامل القاتل وتفادي الانكفاء المشين، كما تفترض الدراسة!
الأحكام الصحيحة تظهر في النتائج، والسؤال البسيط هو هل نجح حزب الله بالتسبّب للكيان بخسائر متمادية وأزمات متفاقمة، يصعب التعايش معها، عسكرياً واقتصادياً وديموغرافياً، بدءاً من تجميد القوات واستنزاف القدرات وتهجير المستوطنين وإصابة الاقتصاد بالشلل، وانتهاء بإصابة قدرة الردع في الصميم ما استدعى جعل شعار التحضير للحرب على لبنان جواباً سياسياً وحيداً على التحدي من جانب الكيان، لكنه جواب ممنوع من الصرف بفضل الخط البياني المتعاكس لمصادر القوة المعنوية والسياسية والمادية، لدى الكيان ولدى الحزب، مع مسار أيام وشهور الحرب، وعندما أراد الاحتلال اختبار فرضية استرداد الردع عبر عملية اغتيال القائد فؤاد شكر مستقوياً بالحشود الأميركية، كان الرد الذي تُعرَف فاعليته بنتائجه السياسية وليس بمزاعم الكيان عن ضربة استباقية ثبت أنها لم تستبق شيئاً، فما كان مخططاً قد نُفّذ، وبعد نصف ساعة على غارات يفترض أنها استبقت وأنهت فرضية العملية. ويكفي أن يكون الردّ قد فرض على يوآف غالانت وزير الحرب أبرز مروجي دعوات الحرب التي تعيد حزب الله اليوم وليس غداً الى وراء الليطاني، وتعيد اللبنانيين الى العصر الحجريّ، أن يقول بعد الرد، أن الحرب على حزب الله ليست الآن بل في المستقبل البعيد.
السؤال عن قلق حزب الله من الحشود الأميركية في غير مكانه، لسبب بسيط هو أن حزب الله يميز بدقة بين تمسكه بمنهجية الربح بالنقاط وما تستدعيه من تبديد مصادر القوة التي تجمّعت للكيان بفعل عامل الاستنزاف والاستخدام المدروس لعامل الزمن، وفي طليعة مصادر القوة حجم استنفار الحكومات والجيوش والشوارع في الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، ابتداء بعد الطوفان، وبين عدم إقامة حساب لهذه الحشود في قرار تموضعه الاستراتيجي، والكلام كان واضحاً على لسان السيد نصرالله على التهديدات الأميركية بعدم فتح أي جبهة إضافية لجبهة غزة، بقوله تهديداتكم لا تعنينا ولا نقيم لها حساباً ولا تخيفنا، أما حاملاتكم هذه فقد أعددنا لها عدتها، تعرفوننا ونعرفكم منذ العام 1982، وها هو الأميركي نفسه في موقف مزدوج، من جهة حشوده التي لا تقدّم ولا تؤخر في قرار حزب الله الرد، ومن جهة يسلم سياسياً أن جبهة لبنان التي جاء للمرة الأولى لمنع فتحها، فيقول ما قاله حزب الله بأنها لن تغلق إلا بالتوصل الى اتفاق ينهي الحرب على غزة.
حزب الله قوة سياسيّة عاقلة، لكن مبدئيّة، قوة حكيمة لكن أخلاقية، قوة تقيم الحسابات الدقيقة لكنها صاحبة مشروع استراتيجيّ لا تراجع عنه جوهره إزالة الكيان.