قرار التمديد لـ «يونيفيل»: لُبنة أميركية لاتفاق بين لبنان و«إسرائيل» من بوابة الحدود البرية!
ريمي خوري
صوّت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على القرار رقم 2749 الذي قضى بتمديد مهمة قوات الـ UNIFIL في جنوب لبنان لسنة إضافية. وفور صدوره، وفي طقس بات سنوياً، خرجت أبواق التمجيد للإنجاز الكبير للدبلوماسية اللبنانية، التي وما إن تّصمُت حتى تبدأ بالظهور الإعتلالات الإضافية المستجدة في قرار التمديد، لتليها الاتهامات بالتقصير بين هذه الجهة وتلك. و “إنجاز” هذا العام، ككلّ إنجاز مثيل سبقه، لم يكن من الوجهة المهنية يستدعي أي تعليق. ولكنه أكثر من أي “إنجاز” سابق مثيل، يستدعي التحذير من الآثار القانونية التي مهَّد لها، وهذه المرة ليس من باب حرية الحركة التي عرف الجيش والمقاومة بحكمتهما كيف يلغيان مفاعيلها، وإنما من باب إلغاء المرجعيات القانونية الدولية للموقف اللبناني في موضوع الحدود البرية، ووضع التفاوض الرسمي المباشر مع العدو على الطاولة أكثر من أي وقت مضى.
ـ أولاً: لم يكن مطروحاً في الأصل تقصير مدة التمديد إلا من زاوية تقنية متعارف عليها إزاء عمليات حفظ السلام تُعرف اصطلاحاً بـ “technical rollover” أو أيضا “straightforward renewal”، وتعني اعتماد نص مقتضب يقضي بتمديد مهمة قوة حفظ السلام على أساس القرار أو القرارات السابقة، ويكون ذلك عادة في أوضاع يحتاج فيها أعضاء المجلس )لا سيما الخمسة الكبار) لفترة إضافية للإحاطة بأوضاع مستجدة إزاء هذه القوة، أو حاجات معينة، أو وصول التفاوض بشأن مهمتها الى مأزق، وهذا كله مع قرب انتهاء التفويض الممنوح لها.
هذه الوجهة كانت خيار فرنسا منذ البدء في ظل الأوضاع المتفاقمة على جانبي الحدود، والمساعي الدبلوماسية المواكبة، والخوف أيضا من أن فتح التفاوض على نص كالذي يجري تقديمه سنوياً من شأنه أن يزيد من التوترات، وأن يفاقم من التشنج بين الدول المعنية. وقد نجحت فرنسا في خيارها، وجرى التمديد، ومن دون اقترانه بتقصير المهلة كما تجري العادة (لستة أشهر كما كان يقترح الوفد الأميركي الذي كان الوحيد في موقفه هذا) عندما يُعتمد التمديد وفق هذه الصيغة. (على سبيل المثال مهمة حفظ السلام في ليبيا وأفغانستان عام 2021).
ـ ثانيا: المشروع الفرنسي في الفقرة العاملة الأولى كان قائماً على أساس صيغة أن المجلس “يطلب استعادة وقف الأعمال العدائية عبر الخط الأزرق”، الصيغة التي اعترض عليها الوفد الأميركي، وطلب بداية إلغائها، قبل أن يعود ويقترح أيضاً “توجيه” أكثر اللغة المستخدمة لمجمل الفقرة في المشروع الفرنسي، والتي تشير الى التطبيق الكامل للقرار 1701 والاحترام الكامل للخط الأزرق.
والغاية من الموقف الأميركي هي عدم صدور نص من شأنه أن يقيّد “إسرائيل” في عملياتها العسكرية في الجنوب، من خلال صيغة أن المجلس “يطلب (demands) استعادة وقف الأعمال العدائية” الذي كان قائماً قبل السابع من أوكتوبر. وعليه، وبعد مشاورات اضطلعت الجزائر بدور أساسي فيها، جرى اعتماد صيغة أنّ المجلس يعيد التأكيد على “دعمه القوي (strongly supports) للاحترام الكامل للخط الأزرق والوقف الكامل للأعمال العدائية”، وهذا ليس طلباً لوقفها كما كان قائماً في القرار 1701 وقرارات التجديد السابقة، وليس طلباً لاستعادتها، والفارق في المدلول القانوني كبير بين الصيغتين لناحية الإلزام وموقف المجلس من مخالفة منطوقها والمسؤوليات التي تترتب عن ذلك. وليقتصر استخدام المجلس لصيغة الطلب (demand) فقط على “التنفيذ الكامل للقرار 1701″، مع تحديده للفقرة الثامنة من هذا القرار التي تنص من جملة ما تنص عليه على المنطقة المنزوعة السلاح جنوب الليطاني.
ـ ثالثا: من أجل الموافقة على تمديد المهمة لمدة سنة كاملة، حاولت الولايات المتحدة إقناع أعضاء المجلس بتوسيع مهمة الـ UNIFIL، وذلك بما يؤمّن قيامها بمتابعة تنفيذ الاتفاق الذي يسعى مبعوثها آموس هوكشتاين للتوصل إليه بين لبنان و”إسرائيل”، وهو ما لم تمضِ به جميع الدول الأعضاء الأخرى، باعتبار أنه لا اتفاق محدداً بعد قد توصل إليه هوكشتاين، وأنه لا ينسجم مع الصيغة المختصرة (technical rollover) التي يجري التمديد على أساسها.
ـ رابعاً: الإشكالية الأكبر في قرار التمديد هي سقوط الصيغة المعتمدة في القرار 1701، والقرارات الدولية ذات الصلة بالجنوب السابقة له، وقرارات التمديد اللاحقة للـ UNIFIL، والتي كانت تقوم على تأكيد المجلس على دعمه لسيادة لبنان واستقلاله في حدوده المعترف بها دولياً، والمعبّر عنها في “اتفاق الهدنة لعام 1943 بين لبنان وإسرائيل”، الاتفاق الذي ينص على أنّ خط الهدنة يتبع خط الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين. وقد استُعيض عن هذه الصيغة بصيغة الدعم لسيادة لبنان واستقلاله على أساس المبادئ والأطر التي يقررها القرار 1701، وشتان في الأسباب والمدلولات بين الصيغتين. وقد تمّ هذا الأمر بناء للموقف الأميركي رغم الاعتراض الجزائري، والغاية السياسية المباشرة منه “هي منح إسرائيل هامشاً أكبر للتحرك والمناورة في المفاوضات التي يقودها المبعوث الأميركي هوكشتاين بشأن الحدود البرية”.
ومن الناحية القانونية فإنه وباختصار تشكل هذه المرجعية الدولية أساساً قانونياً لإلزام “إسرائيل” بحدود فلسطين المحتلة كحدود رسمية لها مع لبنان على أساس الاتفاق الموقع بين الانتدابين البريطاني والفرنسي عام 1923. فمعلوم أنّ اتفاقات الهدنة هي اتفاقات مؤقتة، وهي ليس بالأصل اتفاقات ترسيم حدود، وفوق ذلك فإنّ “إسرائيل” قد أعلنت بعد حرب العام 1967 أنها لم تعد ملزمة بها تجاه جميع الدول التي كانت قد وقعتها معها (مصر- الأردن – سورية – لبنان)، وانتقلت الى المرجعية التي أقرّها القرار 242 وفق معادلة الانسحاب “من أراض احتُلَّت” مقابل الأمن والسلام، وذلك على أساس اتفاقيات ثنائية توقعها معها الدول العربية.
أيّ بمعنى مباشر يفتح هذا الإلغاء الباب على أنه لا حدود دولية معترف بها بين لبنان و”إسرائيل”، ولا حتى مرجعية قانونية ملزمة لذلك باعتبار أنّ اتفاق العام 1923 ليست “إسرائيل” طرفاً فيه إذ لم تكن حينها موجودة، ولا باب لإلزامها به حيث لا تعتبر نفسها دولة وريثة لفلسطين الانتداب. ومن أجل ترسيم الحدود بين لبنان و”إسرائيل” يكون لا بدّ بالنتيجة بحسب القانون الدولي من اتفاقية ثنائية بين الدولتين، وهنا دور الوسيط الأميركي.
والى دلالة اتفاق كهذا لناحية الاعتراف القانوني بدولة الاحتلال، ومآلاته، فإنه مع غياب المرجعية يفتح الباب على مصراعيه من أجل ترسيم وتحديد هذه الحدود من شبعا حتى الناقورة، بدل أن كان الخلاف اليوم محصوراً بالتحديد كعمل تقني على أساس مرجعية قانونية، وتسقط بالنتيجة المرجعية القانونية للنقاط المتحفّظ عليها من قبل لبنان على طول الخط الأزرق، ويفتح الباب بشأنها، وهذا إذا حّسُنت نوايا الوسيط الأميركي الى طرح “المبادلة” التي روّج لها الأخير طويلاً، ولا سيما في نقطة B1 في رأس الناقورة وتداعيات ذلك على الحدود البحرية.
وهنا لا بدّ أن يُسارع لبنان الرسمي الى إنجاز فعلي، وإنْ كان في الواقع هو أقلّ الواجب، وهو أن يرسل الى مجلس الأمن مذكرة يعلن فيها تحفظه على الصيغة الحالية، وإصراره على العودة الى الصيغة السابقة، وأنه ليس ملزماً بها ولا بأية نتائج قد تترتب عليها، وأن يراسل بهذا الشأن أيضاً قوات الـ UNIFIL نفسها على أساس تحديد نطاق مهامها…