ديناميكية الحرب بين الوحدة والانقسام
ناصر قنديل
– مع نهاية زمن الانتصارات الحاسمة في الحروب على الطريقة القديمة، حيث كان الدخول الى العواصم دخول الفاتحين وإملاء شروط الاستسلام على الخصم هو علامة النصر، صار تراجع أحد طرفي الحرب عن الإصرار على تحقيق الأهداف كشرط للخروج من الحرب كافياً لإعلان هزيمته، ونيل الطرف المقابل نصراً يتمثل بإسقاط أهداف الحرب عليه. وهكذا انتصر الشعب الفيتنامي على الجيوش الأميركية، ومثله في حرب أفغانستان، وهكذا في حرب تموز 2006 على لبنان. وفي مثل هذه الحالات يرتبط استمرار خوض الحرب أو التراجع عن مواصلتها بما تفعله الحرب في الجبهة الداخلية للطرف الذي قام بشنّ الحرب وحدد أهدافها، بما ينجم عن الحرب في جبهته الداخلية وما ينجم عنها بالمقابل في جبهة أعدائه الداخلية، لتتحوّل ديناميكية الوحدة والانقسام هي العامل الحاسم في تحديد المنتصر والمهزوم.
– اندلعت الحرب بعد طوفان الأقصى على غزة، والمنطقة العربية والإسلامية والعلاقات الفلسطينية، تحت تأثير ديناميكيات الانقسام، تبدو غزة وحيدة، وتبدو الانشقاقات المذهبيّة في المنطقة في مرتبة متقدّمة على المكانة التي كانت تحتلها القضية الفلسطينية، والفلسطينيون في ذروة انقساماتهم أيضاً. بينما جاء طوفان الأقصى ليطلق ديناميكيات كامنة لم تتضح وجهتها سريعاً على الساحات العربية والإسلامية والفلسطينية، لكن كان واضحاً أن الحرب وحّدت ما كان مقسماً في الكيان بعد صراع بنيوي أثارته مشاريع التعديلات على النظام القضائي التي قادتها حكومة بنيامين نتنياهو وأشعلت شارعاً معارضاً قوياً، وما لبثت هذه الانقسامات أن انطفأت لصالح صيحات الحرب والانتقام، وخرج حكام الغرب ومؤسسات الإعلام الكبرى والعملاقة التي تقود الرأي العام فيه، لتضامن أعمى مطلق مع كيان الاحتلال. وهذا ما جعل سقوف الحرب وأهدافها مرتفعة من جانب الكيان، وصولاً الى شعار النصر المطلق والقضاء على حركة حماس واسترداد الأسرى منها بالقوة.
– يتيح رصد ديناميكيات الوحدة والانقسام على جبهتي الحرب التعرّف على الخط البياني لفرص النصر واحتمالات الهزيمة، فقد تكفّل أحد عشر شهراً من الحرب بفضل استراتيجية الربح بالنقاط التي ابتكرها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وحوّلها إلى استراتيجية معتمدة من محور المقاومة في مقاربة تحديات الحرب، بتبديد مصادر القوة التي تجمّعت للكيان في الأيام الأولى للحرب، حيث حلّ الانقسام السياسي الحاد مكان الوحدة غير المسبوقة سياسياً وشعبياً، وتآكلت بنية الجيش بشرياً ومادياً وتحطمت روحه القتالية والمعنوية وثقته بتحقيق النصر. وفقد الكيان مع قوة الردع، القدرة على حل المشكلات الناجمة عن الحرب مثل قضية الأسرى وقضية مهجَّري الشمال وقضية إغلاق البحر الأحمر، بالاستناد إلى ما اعتاد أن يفعله في مثل هذه الحالات، باللجوء الى استخدام القوة. وصار القبول بالخروج من الحرب دون تحقيق الأهداف طريقاً حصرياً لحل هذه الأزمات، بعدما فقد الكيان قوته الجاذبة التي تمتع بها تاريخياً على عدة مستويات، كقوة جاذبة ليهود العالم الى المكان الأكثر أمناً ورفاهية، أو كقوة جاذبة لرساميل الغرب إلى الملاذ الأفضل للاستثمار والرفاهية والأمن، أو كقوة جاذبة لدول الغرب كقوة ردع كفيلة بحماية المصالح الغربية، أو كقوة جذب لمشاعر التعاطف الغربي بقوة مظلومية المحرقة، وقد حلت مكانها صورة القوة القاتلة للأطفال والنساء والملاحقة بجرائم الإبادة.
– على الضفة المقابلة تراجعت مناخات الانقسام المذهبي، وأصيبت مشاريع الفتن بضربة قاسية، ونجحت صورة الوحدة التي جمعت أكبر حركتين مسلحتين بين المذاهب الإسلامية تحت عنوان فلسطين، وهما حركة حماس وحزب الله، في تقديم صورة مخالفة لما كان مفترضاً في حسابات خصوم المقاومة، وحيث لم تخرج الشعوب إلى الشوارع والساحات لنصرة فلسطين، تكفلت مقاطعة للبضائع والخدمات التي تقدّمها شركات عالمية مساندة لكيان الاحتلال بالتعبير عن تموضع شعوب المنطقة والدول العربية والإسلامية إلى جانب فلسطين ونصرتها بدلاً من التموضع تحت راية التطبيع والفتن المذهبية، ووفق الإحصاءات الغربية بلغت المقاطعة نسبة 95% في دول الخليج وأن شركات مثل ستاربوكس وماكدونالد أغلقت أغلب فروعها في دولة مثل مصر. وبالتوازي مع هذه الوحدة تنهض وحدة فلسطينية تستعدّ لبلوغ مرحلة متقدمة مع حرب الكيان على الضفة الغربية، وإطلاق قطعان المستوطنين ضد السكان الأصليين بكل توحّش حرب غزة، واستهداف أي حضور فلسطيني بما في ذلك وجود السلطة الفلسطينية، وبرز ظهور محور المقاومة كقوة عسكرية وسياسية جديدة تقدم مثالاً على كيف يمكن لوحدة إمكانات جزء من العرب والمسلمين أن تحقق توازن الردع بوجه تحالف يضم الكيان ودول الغرب وفي مقدمتها أميركا، اشارة لما يمكن للمزيد من الوحدة تحقيقه.
– إن الفعل المتعاكس لديناميكيات الوحدة والانقسام في ظل الحرب على ضفتيها، يجعل الضفة التي تكسب المزيد من النقاط في رصيد الوحدة مؤهلة لقطاف النصر في مواجهة الضفة التي تخسر ما تجمّع لها من رصيد الوحدة خلال أيام الحرب الأولى، والمشهد الراهن في الكيان، ليس إلا أول الغيث لما هو آتٍ، وفقاً لتوقعات مجلة الفورين أفيرز، التي تحدثت عن سيناريو الانقسام ووصفته بسيناريو الهلاك للكيان.