حال اللاقرار في الصراع على فلسطين… مزايا ومخاطر؟
د. عصام نعمان*
ثمة حالة لافتة من اللاقرار تسود دولاً وقوى في الشرق والغرب ذات صلة ودور مباشرين ومؤثرين في تحوّلات الصراع في فلسطين وعليها.
لا حدود زمنية واضحة لهذه الحال، وإنْ كانت الفواعل المحتدمة في كبرى الدول ذات الصلة والدور الأكثر تأثيراً، الولايات المتحدة، توحي بأنها قد تبدأ بالانحسار مع انتهاء الانتخابات الرئاسية ومباشرة الرئيس الجديد سلطاته في النصف الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير 2025.
تبدو «إسرائيل» اللاعب الأكثر نشاطاً والأقسى تضرّراً في آن بين اللاعبين المتنافسين في دول الشرق. فهي تعاني من انقسام أيديولوجي وسياسي حادّ في صفوف نخبها الحاكمة، ومن تراجع كبير في قدراتها الاقتصادية وفرص الاستثمار في مرافقها، وإرهاقٍ متنامٍ في فعالياتها العسكرية، وانخراط عميق ومؤذٍ في اشتباكات قتالية واسعة ومكلفة على ساحات فلسطين كلها.
ثمّة لاعب أقدر اقتصادياً، وأوسع دوراً جيوسياسياً، إيران، منخرطٌ هو الآخر في الصراع بالتعاون مع حليف قويّ ومتمكّن ومثابر: حزب الله في لبنان، وحليف جريء وواسع الشعبيّة وعلى درجة لافتة من الاقتدار العسكري والاستيعاب التكنولوجي: أنصار الله في اليمن، وحليف صاعد في التزامه المقاومة واستعداده المتوثّب لانخراط أوسع في الصراع: قوى المقاومة في العراق.
أقدم اللاعبين في حلبة الصراع وأرسخهم التزاماً وصبراً ومثابرة هي فصائل المقاومة الفلسطينية عبر عصور التاريخ ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، وعلى وجه الخصوص مع اندلاع ملحمة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وفي طليعتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
أقوى اللاعبين الإقليميين في ساحات الصراع منذ اندلاع ثورتها سنة 1979 هي جمهورية إيران الإسلامية التي ما زالت عرضةً لعقوبات أميركية قاسية منذ ولادتها، ولا سيما بعد اتضاح دورها في دعم المقاومة الفلسطينية ودعوتها الى إزالة الكيان الصهيوني الغاصب.
أقدم وأقوى اللاعبين قاطبةً، اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً ونفوذاً مع حلفائها الأطلسيين في أوروبا هي الولايات المتحدة. إنها الراعي والحاضن والحليف الراسخ للكيان الصهيوني، والطامع المزمن بموارد العرب النفطية والغازية، والعدو اللدود لحركات التحرر والنهضة في عالم العرب والمسلمين.
إلى ذلك، ثمة ظاهرة لافتة في حمأة الصراع وحال اللاقرار التي تسود مختلف دول الشرق والغرب المعنية بالصراع في فلسطين وعليها هي تعاظم تأثير موازين الإرادات وتقدّمها على موازين القوى وبالتالي غلبة دور الإيديولوجيا نسبياً على دور السلاح في صناعة القرار لدى النخب الحاكمة وفي أوساط الجماهير لدى معظم الدول والقوى المعنية بالصراع في فلسطين وعليها. ففي «إسرائيل»، ثمّة صحوة لقوى الصهيونية الدينية العنصرية في أوساط الجمهور وسيطرة مريحة لها على مقاليد السلطة. وفي الولايات المتحدة، تتنامى النوازع العنصرية للرجل الأبيض ضدّ الملوّنين والآسيويين والمسلمين. وفي عالم العرب، تتصف الفصائل الناهضة بمقاومة الصهيونية والهيمنة الأميركية بطابع أيديولوجي إسلامي إنما غير معادٍ لسواها من قوى المقاومة.
في حال اللاقرار السائدة، ماذا يمكن أن يفعل أصحاب السلطة بما تبقّى لهم من فرص وقدرات على اتخاذ قرارات؟
ظاهرُ الحال يشير الى انّ «إسرائيل» المنقسمة على نفسها، جمهوراً وحكومةً، غير قادرة في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو على اتخاذ قرارات دراماتيكيّة تُخرجها من وضعها المأزوم داخلياً وخارجياً. غير أنّ نتنياهو ما زال يبدو مصمّماً على مواصلة حربه الإبادية ضدّ الشعب الفلسطيني، وقد مدّدها أخيراً لتشمل الضفة الغربية بكلّ مخيمات الفلسطينيين في طولكرم ونابلس وطوباس وقلنديا والخليل. هو يعتقد، بدافعٍ من إيديولوجيته العنصرية، بأنّ وقف الحرب يعني عملياً تكريس نهايته السياسية وربما بدء محاكمته وزجّه في السجن لارتكابات جنائية اقترفها خلال وجوده في السلطة.
يبدو أنه سيتابع رهانه على متابعة الحرب لحين إعلان الفوز المحتمل لحليفه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الاميركية. لكن، ماذا لو استشعر ان ترامب لن يفوز وأنّ منافسته الفائزة كمالا هاريس لن تجاريه في حربه الإبادية ضدّ الشعب الفلسطيني، بل ربما قد تمارس جهوداً ولو محدودة في إطار ما يسمّى «حلّ الدولتين» مع الحرص والمثابرة على اعتماد موقف «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ولكن ليس عن «فتوحاتها» في الأراضي الفلسطينية التي كرّستها مختلف القرارات الأمميّة حقاً خالصاً للفلسطينيين دون غيرهم؟
لعلّ أبرز مزايا حال اللاقرار أنها لجمت أصحاب الرؤوس الحامية، لا سيما «الإسرائيليين» العنصريين منهم، عن المجازفة بشنّ حربٍ واسعة ومفتوحة على حلفاء المقاومة الفلسطينية الملتزمين نصرتها كحزب الله في داخل لبنان، وعلى إيران خاصةً في سياق محاولةٍ لتعطيل برنامجها النووي. لكن، الى متى تُتيح حال اللاقرار تأخير إقدام رجل كنتنياهو، بات يُصنّف مأزوماً وموتوراً، عن أاتخاذ قرار جنوني بغزو لبنان لإبعاد حزب الله الى شمال نهر الليطاني بغية «تأمين» إعادة عشرات آلاف الإسرائيليين من سكان المستعمرات الصهونية في الجليل الفلسطيني المحتلّ الى أماكن سكنهم؟
يتردّد في وسائل الإعلام الإسرائيلية أنّ الأميركيين نصحوا نتنياهو بالإقلاع عن تنفيذ فكرة غزو لبنان لأنّ حزب الله يمتلك من القدرات الصاروخية المتطورة ما يمكّنه من تدمير المرافق الصناعية والبنى الاقتصادية الكبرى والقواعد العسكرية والموانئ والمطارات الإسرائيلية في منطقة «غوش دان» الممتدة بين حيفا ويافا المحتلتين. كما يتردّد أيضاً أنّ نتنياهو المأزوم يميل الى الاستعاضة عن ضرب العدو الأقرب، حزب الله، بضرب العدو الأبعد، إيران، في أثناء حال اللاقرار التي تسود الولايات المتحدة خلال مرحلة الانتخابات الرئاسية ما يعطّل احتمال قيام الرئيس جو بايدن، الصهيوني قلباً وقالباً، باتخاذ تدبير سلبي ضدّ «إسرائيل» مخافةَ خسارة أصوات اليهود الأميركيين المؤيدين في معظمهم للحزب الديمقراطي ومرشحته كمالا هاريس.
لنفترض أنّ تخمينات نتنياهو غير الواقعية وتمسكه الشديد بالسلطة قد يدفعانه الى المجازفة بضرب إيران، فهل لديه من دون مشاركة الولايات المتحدة القدرة على ان يفعل ذلك منفرداً؟
نعم، لديه القدرة… القدرة النووية، أقلّها تدميراً سلاحٌ نووي تكتيكي، فهل يبلغ به الجنون حدّ الإقدام على ارتكاب هذه الجريمة الفظيعة؟
أهل المنطق كما معظم المراقبين يجزمون باستبعاد هذا الاحتمال الجنونيّ. لكن أحداً هذه الأيام لا «يكفل» مجنوناً من طراز نتنياهو!
الأرجح أن يبقى كلّ أطراف الصراع خلال حال اللاقرار في وضع اشتباك حربيّ دائم الى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية وتبخّر أوهام نتنياهو الخرافية.
*نائب ووزير سابق
[email protected]