السيد يحرّك سكينه في جروح الكيان
ناصر قنديل
أمران كبيران كان الفضول يدفع بمتابعي خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لمحاولة الوصول إلى جواب عليهما، وضعهما السيد نصرالله خارج النقاش العام، بعدما اعترف بواقعية شديدة بحجم الضربة الإسرائيلية مع إشارته الى وحشيتها وطابعها الإرهابي والإجرامي واللاأخلاقي، ليضع كل التفاصيل والمعلومات حول كيفية نجاح مخابرات الكيان بتنفيذ هذه الضربة خارج النقاش العام باعتبارها شأناً يخضع للتحقيق ليبنى على الشيء مقتضاه، بصفتها قضية أمنية تخص المقاومة، وكذلك فعل في تعمّد الغموض حول الردّ الذي قال إنه آت على الضربة ووصفه بالعقاب الشديد والقصاص العادل، لكنه تمسّك بعدم الكشف عن أي تفاصيل حول متى وكيف وأين، وهذا شأن يتصل بدماء بنية المقاومة وبيئتها من باب الثأر والانتقام لهذه الدماء، والعقاب على العدوان الذي استهدفها، مخصصاً للنقاش العام قضيتين، تتصلان بالرد والموقف من سياق المواجهة مع الكيان، هما ارتباط جبهة الجنوب بجبهة غزة باعتبارها القضية التي تمثل محور اهتمام قادة الكيان وحلفائه في الغرب وهي جوهر كل المساعي والاتصالات التي تدور حول جبهة الجنوب، وبالتوازي قضية إعادة مهجري مستوطنات شمال فلسطين المحتلة باعتبارها العنوان الذي حدّده رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو لهذه الجولة من الحرب.
المقاومة تبدو من خطاب السيد مرتاحة لما تحقق من احتواء للضربة وترميم للبنية وثبات في البيئة، وما ظهر من وحدة لبنانية وراء المقاومة وتفويض ضمني لها بالرد، ولذلك المقاومة ليست مضطرة لتقدّم كشف حساب لأحد ولا السعي لإقناع أحد بما سوف تفعله. فالضربة كافية للقول إن جبهة جنوب لبنان هي محور الحرب، رغم كل محاولات التهوين والتشكيك، والمقاومة التي بذلت جهوداً إعلامية وسياسية لمساجلة كل التشكيك والتهوين من أهميتها وصلت الى نقطة قررت فيها أنها غير معنية بعد الآن بخوض هذا النقاش، ولذلك فما يخصها يخصها وحدها وهو ليس مطروحاً للنقاش، ولن تدلي بدلوها ورؤيتها للتعامل معه، ولا يهمها رضى أحد أو عدم اقتناع أحد آخر، فإن كانت الضربة استهدافاً لها فهي معنية وحدها بالتحقيق بتفاصيل كيف حدثت الضربة ولن تشارك ذلك مع أحد، ولأن الدم دمها والضربة اصابتها فما يخص الثأر للدماء يعنيها وحدها. أما الرد فهو بالإعلان عن المضي قدماً في مهام جبهة إسناد غزة بعزم وثبات وشدة، لأن هدف الضربة هو صرفها عن هذا الالتزام، والرد هو بتأكيد المضي به وتقديم البرهان العملي الفوري على ذلك في الميدان.
يلتقط السيد نصرالله الكلام المتكرر لرئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو عن أن الهدف الراهن للعمل العسكري على جبهة لبنان، هو إعادة مهجري المستوطنات، ولأجل ذلك يتم نقل الفرق العسكرية إلى هذه الجبهة، والرد الأشد قوة على الكيان وحربه هو الإعلان عن أن هؤلاء المهجرين من المستوطنين لن يعودوا، ثم يقبل السيد رفع المسألة الى مستوى تحدي النصر والهزيمة مع الاحتلال، فإن عادوا دون اتفاق في غزة مع المقاومة، انتصر الاحتلال وإن لم يعودوا إلا عبر اتفاق مع المقاومة في غزة هزم الكيان وانتصرت المقاومة وانتصر حزب الله. ومعلوم أن إعادتهم تستدعي أن يتوقف حزب الله عن استهداف عمق شمال فلسطين المحتلة بالصواريخ والطائرات المسيرة، وهذا كي يحدث يجب أن يقرّر حزب الله ذلك خوفاً من العواقب التي مثلت الضربة نموذجاً لها، أو أن يواصل الاحتلال ضرباته وصولاً الى الحرب الكبرى لفرض ذلك، وبذلك يحرم السيد نصرالله نتنياهو من رد ناري سريع بداعي الحفاظ على المعنويات بعد الضربة يتخذها نتنياهو نقطة انطلاق للخطوة التالية في التصعيد، ويمضي السيد بمعادلة قوامها، لن يعود المهجرون ويترجم ذلك بتصعيد موضعي في شمال فلسطين المحتلة، ويجبر الكيان على مجاراته في ذلك، والنتيجة هي تهجير المزيد بدلاً من عودة من تمّ تهجيرهم.
عملياً يفتح السيد النقاش حول قضية ربط جبهة الجنوب وجبهة غزة وقضية إعادة المهجرين، ويقفل النقاش العام حول كيف تمت الضربة وكيف سيتم الانتقام والرد، والرد بتعطيل الأهداف هو ما يهم النقاش العام. والأهداف واضحة وهي تتصل بربط الجبهات والمهجرين، وهكذا يمسك السيد بسكينه ويحرّكه في جروح الكيان، فالقول بأن اتفاقاً في غزة سيتكفل بوقف النار على جبهة لبنان وإعادة المهجرين لم يعد كلام السيد نصرالله وحده، بل بات يكرره من ورائه الرئيس الأميركي جو بايدن ومفوض السياسة الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ويقف نتنياهو وحيداً يحلم بالوصول لفرض وقف جبهة لبنان من خارج التوصل إلى اتفاق مع غزة، ومن خلال ذلك ضمان عودة المهجرين دون أن تقف الحرب على غزة. والسيد هنا يستثمر على مناخ دولي وإقليمي يتعاظم لصالح أطروحة المقاومة، ويحول هذا التعاظم الى غطاء مشروع للمضي في حربه، يضمه إلى مناخ دولي آخر لم يستطع تغطية الضربة التي استهدفت لبنان ومناخ عربي تضامني، ومناخ لبناني جامع واستثنائي، ولا يريد ان يفرط بذلك كله استعجالاً لرد يفتح الطريق لخطوة ثانية مبكرة في اتجاه التصعيد الواسع خارج جبهة الجنوب، فلم العجلة ولنذهب الى المزيد من التهجير والمزيد من طرح الأسئلة، ماذا أنتجت الضربة للكيان غير استعراض القوة المشين؟ وما هي جدواها؟ وكيف سوف تعيد المهجرين؟ وما جدوى كل الحرب التي يبشر بها نتنياهو ما دام لا يملك خريطة طريق لكيفية إعادة الأسرى بواسطتها وكيفية فتح البحر الأحمر عبرها، وكيفية إعادة المهجرين عن طريقها؟
إذا قرّر نتنياهو كعادته الهروب إلى الأمام بمبادرة إجرامية جديدة سوف تربح المقاومة المزيد من النقاط وتبقي ضرباتها تحت السقف الدفاعي، ومشروعية الدفاع عن المدن والمنشآت المدنية اللبنانية إذا ما تم استهدافها؛ وإذا بقي الاستهداف محصوراً ببنية المقاومة العسكرية سوف يكون الرد مزيداً من النيران في شمال فلسطين المحتلة، والمزيد من المهجرين والمزيد من المنصات للقول إن اتفاقا في غزة سوف يتكفل بوقف النار في جبهة لبنان وإعادة المهجرين، كما تضمن بيان البيت الأبيض مساء أمس.