ماذا وراء «شيطنة» التشيّع؟
السيّد جعفر فضل الله
للصراع الدائر على مساحة العالم الإسلامي، بل العالم، حول التشيّع والشيعة وحركاتهم الإسلاميّة عموماً، له جانبان: الجانب السياسي والميداني، والجانب الثقافي والفكري المرتبط بموقعه من المجال الإسلاميّ العام الذي يضمّه هو وسائر المذاهب والحركات الإسلاميّة من جهة، وبما يساهم به من بلورة الرؤية الإسلاميّة الحضاريّة من جهة أخرى.
ما سنحاول معالجته في هذه المقالة، هو ما يرتبط بالجانب الثّاني لأنّني أعتقد أنّ الخلل في رؤية هذا الجانب، هو الذي عقّد المشهد العامّ في ما يخصّ الجانب الأوّل.
يبقى أن نُشير إلى أنّ «الشيطنة» الواردة في العنوان هي نوعٌ من الصناعة التي يتمّ من خلالها صنعُ صورَةٍ لموضوعٍ ما على صورة «شيطان، بما يختزنه معنى الشيطان من السلب والشرّ المطلق، مقدِّمةً لإيجاد مجالٍ من ردود الأفعال تجاهه، كالابتعاد عنه والاستعاذة منه والرجم وما إلى ذلك.
وليس بالضرورة أن تكون الشيطنةُ فعلاً خارجيًّا ناشئًا من مؤامرةٍ وخطّةٍ ما يقوم بها فاعلون خارجون على مجال الموضوع، بل يُمكن أن تكون الشيطنة ممارسة يقوم بها الذين ينتمون إلى الموضوع، بهدف تأكيد تلك الصورة الشيطانية، من حيث يدرون أو لا يدرون.
منذ منتصف القرن العشرين، برزت إلى الواجهة حركةٌ إسلاميّة تجمّعت في قاعدتها عدّة عناصر ذات قوّة وتميُّز. هذه الحركة كانت «حزب الدعوة الإسلاميّة» في العراق، وعناصرُ التميّز كانت ثلاثة:
الأوّل: ارتكازُ الحزب المذكور على قوّة فكريّة تنظيريّة مستندة إلى قواعد الاجتهاد الفكري والفقهي على حدّ سواء الأمرُ الذي أخرج الحالة الثقافيّة في الحزب، من دائرة التنظير للحزب بخصوصيّته، إلى التنظير للحركة الإسلاميّة عموماً التي تتحرّك في أفق الحزب أو الدولة أو على مستوى حركة الصّراع الحضاري في العالم، متجاوزاً في الوقت نفسه خصوصيّته المذهبيّة لينظّر ضمن الأفق الإسلامي العامّ، بحيث اكتسبت التجربة صفةً تنظيريّة إسلاميّة قابلة للعبور إلى حركيّة إسلاميّة أخرى تتحرّك في المجال السنّيّ، تماماً مثلما كانت تجربة الحزب المذكور متأثّرة بالتنظير الحركي لتلك التجارب، كحركة «الإخوان المسلمين»، أو «حزب التحرير» ونحوهما. وهذا التأثّر ليس عيباً، كما يطرحُهُ البعضُ، بل هو تأكيدٌ لطبيعة انفتاح الإطار الإسلامي العامّ، ووحدة مساره الحضاريّ، ليُعبّر عن نفسه عبر التجارب المتنوّعة للحركة الإسلاميّة، بمعزل عن الخصوصيّات التي تميّز تجربةً عن أخرى.
على هذا الأساس، يُمكن النظر إلى التنظير للحركة الإسلاميّة الذي بدأ في المجال الشيعي، على أنّه تراكميّ للتنظير الّذي بدأ في المجال السنّي، ويُفترض أن يعود عليه بالتّأثير، كقانون طبيعي في حركة العلم والمعرفة وتطوّر التجارب العمليّة.
الثاني: استنادُه إلى القوّة المعنويّة للحوزة العلميّة، في التصاق المرجعيّة بالجماهير، وتفاعلهما معاً في حركة الواقع ذلك أنّ تأسيس الحزب تمّ على يدي السيّد محمد باقر الصدر مع أقرانٍ له وسرعانَ ما طرح السيّد الصّدر نفسَه مرجعاً دينيّاً، ما أعطى الحزبَ نفسَه شرعيّة وبُعداً مرجعيّاً في الواقع الإسلاميّ العامّ، وليس في الحزبِ نفسه. وهذا الأمر ربّما يشكّل نقطة تميّز بالنسبة إلى الحركة الإسلاميّة الناشئة في المجال الشيعي بخلاف ما هو حاصلٌ في المجال السنّي، الذي تحرّكت فيه الحركات الإسلاميّة بعيداً عن المؤسّسة الدينيّة العليا.
الثالث: التنوّع الجغرافي للمنتمين إلى الحزب، أو المثقّفين في مجاله الثقافي، والذي أمّن مساحة انتشارٍ واسعة للثقافة الحركيّة الإسلاميّة، قائمة على أساس امتلاك الحدّ المقبول من المعايير التي تستطيع أن تفكّر وتحلّل وتستنتج الموقف الشرعي الأمر الذي جعل أيّ حالةٍ تقليديّة في المرجعيّة الدينية التقليدية، غير ذات تأثير كبير في التجربة الحزبيّة وشرعيّة الحركة، سوى في حالات قصوى واستثنائيّة.
وعلى سبيل المثال، كان كثيرٌ من المنتمين إلى هذا الحزب، من الذين يرجعون في الفتاوى الفقهيّة إلى مرجعيّة السيد أبي القاسم الخوئي ت1991 ، وبالرّغم من عدم تصدّيه للعمل الحركيّ، فلم يكن الرجوع إليها بالتقليد عائقًا أمام الحركيّين الإسلاميّين في عمليّة تحقيق الانسجام بين الفتوى الشرعيّة والموقف والسلوك الحركي لأنّ القاعدة العامّة يحدّدها المرجعُ، ولكنَّهُ يتركُ تطبيقاتها للمكلّفين بل ليس من صلاحيّاته إلزام المكلّفين بالتطبيقات من حيثُ هو مرجعٌ، وإنّما له إلزامهم من حيثيّات أخرى، ككونه حاكمًا أو خبيرًا مورثًا رأيه للاطمئنانِ. ولذلك كان العلماء القياديّون للحركة الإسلاميّة الصّاعدة، يملأون المساحة الفارغة من الفكر والفقه الإسلامي على المستوى التطبيقيّ.
2
في العام 1980، استُشهد السيد محمد باقر الصدر على يد النظام الصدّامي، وكان لاستشهاده وقع الصدمة الكُبرى في نفوس العاملين إذ كانت التجربة تمتلك كثيرًا من عناصر الغنى والتطوير لتجربة الحركة الإسلاميّة، ولا سيّما مع وجود تجربة إسلاميّة أخرى ناشئة، تعبّر عن نفسها في إطار الدولة والحكم، وهي الثورة الإسلاميّة في إيران.
من هنا، يُمكن لكثيرين أن ينظروا إلى تجربة الحركة الإسلاميّة في العراق على أنّها تؤسّس لأرضيّة تلاقي الفكر الحركي الذي تأسّس في «الدعوة»، مع الدولة الإسلاميّة الوليدة في إيران، والمستندة إلى القوّة المعنويّة والفكريّة والمرجعيّة للحوزة العلميّة، والمتمثّلة بشخص السيّد الخمينيّ، مع احتفاظ الدولة الإيرانيّة بخصوصيّتها الجغرافيّة في واقع الانتماء الطبيعي. بل إنّ فكر «الدعوة» الحركي كان ممكناً أن يشكّل الحلقة الفكريّة التنظيريّة الوسيطة بين التجربة الحركية الإيرانيّة في تأكيد مبدأ بناء الدولة على قاعدة الفكر السياسي والشرعي الإسلامي، وبين العالم العربي المُهيّأ لاحتضان تجارب مماثلة، حتّى في المجال السنّي بخصوصيّته السنّية، لا على قاعدة تشييع السنّة كما يُروّج لها لأنّ للتجربة الإيرانية خصوصيّتها الفارسية ذات الحساسيّة التاريخية مع الخصوصيّة العربيّة، كما أنّ طبيعة الدولة وآليّات الحكم وطبيعة المجتمع الإيراني، قد تزيدان من تلك الخصوصيّة إذا ما قاربنا المسألة من ناحية سوسيولوجيّة.
على هذا الأساس، لم تكن طبيعة الخصوصيّات التي تطبع التجربتين، لتجعل الحركة الإسلاميّة في المجال العربي تنزع نحو استنساخ التجربة الإيرانية بخصوصيّتها، وإنّما تستفيد من وهجها، لمراكمة التجربة ودفعها إلى مديات أوسع، لتشكّل الحركة الإسلاميّة العربيّة والإيرانيّة الناشئة في المجال الفقهي الإسلامي الشيعي، القاعدة التنظيريّة لإخراج الحركة الإسلاميّة من خصوصيّتها الشيعية، لتكون نموذجًا قابلاً للتطوّر من خلال الفكر والتجربة وغنى الخصوصيّات الأخرى.
3
اندلعت الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة، التي كانت الجزء الثاني ـ بعد استشهاد الصدر ـ من عمليّة احتواء امتدادات روح التجربة الحركيّة الإسلاميّة، والتي حُكماً لن تكون فارسيّة، لعوامل عديدة تاريخية واجتماعيّة وثقافيّة ليس هنا مجالُ استعراضها، وكانت تلك التجربة جزءاً من مسلسل «شيطنة» التشيّع، عبر ربطه بالتنافر العرقي الفارسي العربي، بل بشيطنته دينيّاً، عبر ربط التشيّع الفارسي بالمجوسيّة في ذهنيّة الجماهير، أو بالصفويّة التاريخيّة، ما سيسمح لاحقاً باستعادة صراعات تاريخيّة، تمثّلت بصراع عثماني ـ صفوي، وإسقاطه على الواقع المعاصر، دونما مراعاة لكلّ التغيّرات والتطوّرات الحاصلة في المجال الفارسي، والذي هو ـ ضمن حركة الثورة والدولة الإسلاميّتين ـ مسارٌ لتجربة مختلفة، حتّى لو حملت في طيّاتها بعض العناصر بسبب تأثّرها بالمجال الّذي تعيشُ فيه.
من الطبيعيّ أن تتوافر لهذه «الشّيطنة» آليّات داخليّة، تنخرط فيها شخصيّاتٌ ثقافيّة ودينيّة من هنا وهناك، تعيش التقليديّة البعيدة عن المنطق الحركيّ، وضيق الأفق الإسلاميّ المستغرق في خصوصيّات الانتماء إلى المجال المذهبي، والذي يمذهب كلّ شيء بعيداً عن الانتماء الإسلاميّ العامّ، كعناصر توفّر المادّة الخامّ لتأكيد الدعاية الإعلاميّة حول ضدّية إيران للعالم العربي والإسلامي. ومن الطبيعيّ ألاّ نستبعد إمكان انطلاق مواقف أو شعارات خاطئة من قبل بعض أرباب الثورة أنفسهم، قد تكون ساهمت في إيجاد المبرّرات لأيّ خطّة للشيطنة تجاه التشيّع وتجربته الوليدة.
ما نشهده اليوم هو استثمار الفكر المذهبيّ الضيّق الأفق، العابر للمجالات الخاصّة إلى فضاء العالم، من خلال تطوّر وسائل الاتّصال الحديثة، والتي جعلت الشخص الجالس في قبوٍ فكريّ مظلم، يعيش أشدّ حالات الضيق النفسي والتحجّر الانفعالي، قادراً على مخاطبة العالمon» «line، مخترقاً الحدود الجغرافيّة لقارّات الأرض الأمر الذي يجعلُ عمليّات الفرز، أو التروّي في إصدار الأحكام، لدى الجماهير الّتي تشكّلت ذهنيّتها على وقع الصراع المذهبي التاريخي، أمراً بالغ التعقيد والصعوبة.
إذن، أُنضجت «الشيطنة» الإقليمية للتشيّع على نار الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة، وباتت التهمة جاهزة العناصر، مكتملة المشاعر الكامنة، لأيّ استثمارٍ لاحقٍ تحتاج إليه مراحل «الشيطنة» المتعاقبة.
4
في ذلك الوقت، وعلى أثر الاحتلال «الإسرائيلي» لجنوب لبنان منتصف 1982م، كانت تُستولَد حركةُ مقاومةٍ إسلاميّةٍ متأثّرة بحركة المقاومة الفلسطينيّة، وحركة أمل وحزب الدعوة الإسلاميّة الذي انخرطت نخبه اللبنانيّة عفويّاً في الموقف الإسلامي الرّافض للاحتلال.
ربّما لم تكن المرحلة في ذلك الوقت تشي بإنشاء حزب إسلاميّ، بل كانت حركة مقاومةٍ شعبيّةٍ حاولت أن تستند إلى الموقف الإسلامي الشرعي في حركتها، وهنا برز دور السيّد محمد حسين فضل الله، الذي واكب تجربة الحركة الإسلاميّة في العراق، اهتماماً وتنظيراً، إلى جانب الشهيد الصدر، ليمتلك زمام القيادة التثقيفيّة لحركة المقاومة الشعبيّة، والتي كان ميدانَها المسجدُ، وقاعدتَها كتابُ الله وسنّة نبيّه، وكان الخطابُ المتشكّل آنذاك خطاباً إسلاميّاً بعيداً عن الأطر المذهبيّة الضيّقة، يكتسبُ من خصوصيّة الانفتاح الاجتهادي الشيعي زخماً حيويّاً في مواكبة التجربة، وينفتح على المجال السنّي بالكثير من عناصر الغنى الثقافيّة التي يُمكن مراكمتها في تطوير تجربة الحركة الإسلاميّة في ذلك المجال.
آنذاك، كان خطابُ القيادات الميدانيّة للمقاومة يتحرّك بشيء من الحماسة في ما يخصّ الأهداف الإسلاميّة، متأثّراً بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ولذلك كانت أهداف من قبيل طرح إقامة الجمهوريّة الإسلاميّة في لبنان، لا تنطلق من دراسة الواقع اللبناني بخصوصيّاته، بل ترتكز على حالة الفوضى التي توهم الإنسان بإمكان سدّ الفراغ عبر ذاك النوع من الطروحات، في حين كان خطاب السيّد فضل الله يتحدّث بوضوح عن عدم إمكان واقعيّ لهذا النوع من الطروحات، نظراً إلى الخصوصيّة اللبنانيّة، من دون أن يعني ذلك بطلان المشروع الفكري للدولة الإسلاميّة كطموحٍ ورؤية ومشروعٍ فكريٍّ أصيل.
كان السيّد فضل الله، وبسرعةٍ فائقةٍ، يتبوّأ موقع الصدارة في ضبط إيقاع الخطاب الفكري للحركة الإٍسلاميّة الفاعلة في المنطقة، والتي يُفترض أن تكون فاعلةً على مستوى التأثير في مجالات أوسع من المنطقة، وكان جاهزاً لملء الفراغ، مشكّلاً القيادة الفكريّة والتنظيريّة والشرعيّة الحركيّة التي حمت تجارب الحركات الإسلاميّة من الجمود الذي يمكن أن تفرضه تقليديّة المرجعيّة الدينيّة من جهة، أو الاستغراق في خصوصيّات عمل الدولة الإسلاميّة الصاعدة من جهة أخرى الأمرُ الذي أمّن الاستمراريّة في تغذية الفكر الحركي الإسلامي في التجربة الجديدة.
كانت المقاومة الإسلاميّة تمثّل الاهتمام الكبير في فكر السيّد الذي واكبها من موقع المجتهد المفكّر والمستشرف لتحدّيات المستقبل، انطلاقاً من فلسفته التي أخذها شعاراً «إنّي موكّلٌ بالإسلام أتبعُهُ»، فكان مُنفتحاً، بل مواكباً على كلّ تجربة حركيّة، بعيداً عن خصوصيّات الانتماء المذهبي أو العرقي أو الجغرافي لأفرادها ـ ولذلك انفتحت على فكره الحركة الإسلاميّة في فلسطين، والحركة الإسلاميّة التركية التي ترجمت بعض كتبه ـ، وكان ـ في الوقت ذاته ـ يعمل على حماية التجارب من نقاط ضعفها لأنّ التجربة الحركية الإسلاميّة الكلّية ـ أي كتجربةٍ نموذج ـ تفترض تجميع نقاط القوّة التي تكتشف معها كلّ تجربةٍ في مجالها نقاط الضعف، وتعملُ على الإفادة من التجارب الأخرى لتحويلها إلى عناصر قوّة.
لم يقتصر ذلك على الحركات الإسلاميّة، بل تعامل السيّد ضمن المنهج ذاته مع الدّولة الإسلاميّة الصّاعدة في إيران، فواكبها تنظيراً، وكانت أفكاره وطروحاته ولقاءاته بعيدةً عن المجاملات، وأقرب إلى الخطوط العمليّة التي تواكب التجربة كما لو كانت جزءاً من قيادتها الفعليّة. إنّها إسلاميّة التجربة التي تفرض عليك أن تفكّر معها ولها، حتّى لو كنت خارجها على المستوى التنظيمي والهيكلي.
كان الأفق التنظيريّ الّذي أمّنه المجال الجغرافي لعمل السيّد فضل الله، وهو لبنان، والخصوصيّة العربيّة التي يعيش لغتها ومجالها المجتمعي، والبُعد العالميّ للفكر الإسلاميّ العابر للحدود والخصوصيّات، يدفع في اتجاه رسم الفكر الإسلامي للمرحلة المقبلة ليجد السيّد نفسه معنيّاً بوضع قواعد الإسلام الحركي، في علاقته بالفكر وتأصيله، وتخليصه من الشوائب التي علقت به في مدى التاريخ، وابتعاده عن حالات الترف والتجريد إلى حالة العمليّة والواقعيّة، مروراً بانفتاح هذا الإسلام الحركيّ على الداخل الإسلامي، بعيداً عن الانقسامات المذهبية الطارئة على الإسلام، والانطلاق بالخصوصيّة المذهبيّة والجغرافيّة لجعلها مصدر غنىً للتجربة الإسلاميّة الكلّية الجامعة، وصولاً إلى نحت القواعد التأصيلية للحوار واللقاء الديني، ولا سيّما بين الإسلام والمسيحية، والتأسيس للحوار الإنساني العامّ، كما للتلاقي القومي، على قاعدة البحث عن الصورة الحقيقية التي تستثمرُ معها القوميّات غناها لاحتضان الصورة وعند هذه النقطة، تلتقي الخصوصيّات كلّها على المشروع التحريري المشترك، ومركزيّته فلسطين، والمشاريع التحرّريّة الداخليّة التي لا بدّ من أن تتحرّك بوصفها طريقاً لتفعيل العمل المشترك في سبيل التحرير الكبير لفلسطين، والتحرّر من الهيمنة الاستعماريّة والاستكباريّة… أضف إلى ذلك، الانفتاح الاجتهادي الذي يعملُ على جسر الهوّة ـ من داخل النسق الاجتهادي الفقهي والنصّي ـ بين الدين والعلم، وبالتالي بين الإسلام والحياة، إضافةً إلى تضييق مساحات الخلاف المذهبيّ حيال كثير من القضايا التي راكمتها حالات العصبيّة عبر التاريخ… بما رأى فيه الكثيرون فكرَ نهوضٍ حقيقيّ، إذ شكّل قاعدةً للحركة السياسية والجهاديّة، سواء تحرّكت عبر العمل الحزبي، أو عبر الدولة، أو عبر أيّ من الأطر المشتركة والمشاريع الجامعة، فإنّها قد تمثّل قفزةً تختصرُ الزّمن في عمليّة النهوض الحضاري في مقابل الحضارات الأخرى في جمعٍ عقلانيّ إنسانيّ ـ يكتسب المشروعيّة الشرعية أيضاً ـ بين النصّ والواقع، وبين الدين والعلم، وبين الفرد والمجتمع، وبين الطقس العبادي والفاعليّة الحركية في ميادين الحياة…
لسنا هنا في مقام تبجيلٍ ومدحٍ فالزمن كفيلٌ بإظهارِ هذه الأبعاد كلّها في فكر السيد فضل الله النهضوي، والذي هضم التجارب الماضية وأعاد إنتاجها ضمن تحدّيات القرن العشرين وما بعدَه… إلاّ أنّ ما نرمي إليه في الحقيقة، هو أنّ فكر السيّد فضل الله نفسَه خضع لمنطق «الشيطنة»، عبر إعادة شحن الواقع الجماهيري بالركام المذهبي المنغلق ليغدو أيّ فكرٍ نهضويّ حركيّ اجتهاديّ منفتحٍ، فكراً «شيطانيّاً» في المجال الفكري المتحرّك، أعني به التشيّع.
ما نقصده بحركيّة المجال الفكري للتشيّع، ببساطة، هو انفتاح باب الاجتهاد العقيدي والفقهي والفكري الأمر الذي يُكسب التشيّع نفسَهُ حالةً ديناميّة غير نهائيّة التشكّل، وقادرة ـ في الوقت نفسه ـ على التأقلم مع مستجدات الحياة، وتحدّيات الفكر المضادّ، لا ليمارس عمليّة إسقاطات على النصّ الإسلاميّ لمصلحة الواقع، بل اجتهاد قائمٍ على استنطاق النصّ، تبعاً للتراكم المعرفي والثقافي المستجدّ، والذي يفتح أفق الفهم بما قد لا يتوافر في اجتهادات الماضين.
هذه الحركيّة الفكريّة للتشيّع، تفتح إمكانات التطوير في الفكر الإسلامي عموماً، وتضيّق الهوّة ـ إذا ما أتيح فتح باب الاجتهاد الإسلاميّ لدى سائر المذاهب ـ بين التنوّعات المذهبيّة والفكريّة الإسلاميّة انطلاقاً من الخبرة الحياتيّة التي تراكمت لدى الجميع، ويجري كبتُها لمصلحة ادّعاء نهائيّة الفكر المُنتَج تاريخياً تحت مسمَّيات «السلف» و»المشهور» وما إلى ذلك، بما يُفضي في النهاية إلى خلل في التركيبة الذهنيّة للعقل الديني عموماً، بين تحدّيات الواقع وأسئلته المستجدّة، وبين إفقاد النصّ إمكانات المواكبة والإجابة لذلك الواقع وتلك الأسئلة، بما يدفعُ الانتماء الإٍسلامي ـ لتحقيق التجانس ـ إلى إحدى حالتين: إمّا الاستقالة من الواقع والدخول في حالة سلفيّة إلغائيّة، وإمّا حالة استقالة من الانتماء نفسه نحو حالة علمانيّة، تحت ضغط عدم إمكانات المواءمة بين الانتماء والحياة الواقعيّة. هذا فضلاً عن أنّ اختيار البقاء في حالةٍ متأرجحةٍ، يُفضي إلى تراكم فجوات نفسيّة على الفرد والمجتمع، تجعل الحال متذبذباً بين الانتماء والواقع، بما يُفقده ذاته، ويجعله ـ بمنطق التبرير ـ تجمّعاً لذوات متعدّدة.
لن نستغرق كثيراً في تحليل هذه النقطة، بقدر ما نريد الإشارة إلى أهمّية انفتاح باب الاجتهاد في الإسلام عموماً، للخروج من هذه المشاكل، نريد بالقدر نفسه الإشارة إلى ما يُمكن أن يمثّله تبنّي المنهج الفكري الذي واكب الحركة الإسلاميّة، ولا سيّما فكر السيّد فضل الله، من عمليّة اختصار للزّمن في اللحظة المأزومة، في محاولة للخروج من عقال الشيطنة الثانية.
على أساس ما قدّمناه، يُصبح بديهيّاً أنّ أيّ فكرٍ خُرافيّ أو خياليّ أو مغالٍ ـ بحسب الاصطلاح ـ، وهو الفكر المستغرَب المفتقر إلى الدليل والبُرهان بمنطق العلم والعقل، وضمن آليّات إثبات النصّ، يمثّل حالة «شيطنة» للفكر، تدفعُ إلى الابتعاد عنه باسم العقلانيّة والواقعيّة والابتعاد عن الخرافة… كما يشكّل الأرضيّة الخصبة لنفاذ الجهات الخارجيّة للعبث بالواقع الإٍسلامي الشعبي، الذي لا يملك الوقت والآليّات الكافية للتدقيق في كلّ ما يُعرض عليه… كما يشكّل السلّم الذي يصعد عليه الكثير من المنتفعين أو الجهلة أو المشبوهين، أو من الشخصيّات والجهات الداخليّة المأزومة، لتوجيه الرأي العامّ نحو الارتباط بالزّيف والعصبيّة، وبعيداً عن العقل والمنطق ومعايير الإثبات العلمي.
ليس المنطق الديني ضدّ الغيبيّات، ففي القرآن عصا موسى ع الخشبيّة تتحوّل إلى ثعبانٍ، والناقةُ تخرج بقدرة الله من الجبل، والميت يقوم من الموت بإذن الله على يد عيسى ع ، وما إلى ذلك وهي تمثّل حقائق دلّ الدّليل على حقّانيّتها، انطلاقاً من الإثبات القطعي لصحّة صدور القرآن الكريم عن الله ولذلك يبقى منطق الغيب محكوماً بقواعد العقل في الإثبات، ولا يمرّ الإيمان بالغيب إلاّ من خلال العقل الذي يملك الإثبات والنفي تبعاً للدّليل هنا وهناك، أو يملك التشكيك ـ الذي يعني النفي عمليّاً ـ تبعاً لفقدان الدّليل على الأمرين…
لا نريد الخوض هنا في هذه المفردة، فمجالها علمُ الكلام وفلسفة العقيدة، ولكنّنا نريد التأكيد أنّ «تخريف» التشيّع هو أحدُ أبواب «شيطنته»، والذي لا يجوز ـ أبداً ـ أن يُستسهل، لأنّ «التخريف» موجودٌ لدى فرقٍ أخرى أو أديانٍ أخرى، مع احترامنا لإيمان أيّ فردٍ، فضلاً عن الجماعات الدينيّة.
بالطبع، لا يُمكن أن نعفي أجهزة الاستخبارات المستندة إلى مراكز الدراسات والأبحاث الغربيّة، التي نشطت منذ صعود نجم التشيّع، فكريّاً وسياسيّاً وجهاديّاً، مع مرونته الانفتاحيّة على الواقع الإسلامي والدّيني والإنسانيّ، من دراسة نقاط القوّة والضّعف كلّها، منذ مطلع الثمانينات خصوصاً، والعمل على النفاذ من خلال ما يُمكن لضرب الإمكانات الواقعيّة لتلاقي التجارب الإسلاميّة، والتقريب بين المذاهب، عبر تفعيل المشاريع المشتركة، وتبنّي القضايا الكُبرى، وفي مقدّمها فلسطين ومقاومة الاحتلال، والاستقلاليّة الذاتيّة بعيداً عن هيمنة السياسات الخارجيّة…
لا ننطلق هنا بذهنيّة المؤامرة، لكنّنا لا نريد أن نعيش السذاجة التي ترى نفسها معزولةً في جزيرة بمنأى عن كلّ حركة التخطيط الاستراتيجي في العالم تجاه منطقتنا على وجه الخصوص.
خضع هذا الفكرُ لشيطنةٍ ضمن المجال الإسلامي الضيّق نفسه فانخرطت ضدّه قياداتٌ في المجال الشيعي، كانت قاصرةً عن فهم الأفق المستقبليّ الذي كان يتحرّك فيه، ولم تستثمر قياداتٌ في المجال السنّي البُعد الإسلاميّ، فتعاملَ كثيرون معه على أساس استغلال ما يُطرح للاستمرار في طريقة تسجيل النقاط ضدّ الشيعة… كما خضع ذلك الفكرُ العقلانيّ المنفتح على الحوار حتّى في عمق الحرب اللبنانيّة ألّف السيّد فضل الله كتاب «الحوار في القرآن» على ضوء الشموع وأصوات القذائف في الحرب الداخلية اللّبنانيّة ، لشيطنة الغرب، حين وضعته الولايات المتحدة الأميركية على لائحة الإرهاب، وتوفى وهو لا يزالُ على لائحتها، كدليل على أنّ السياسات الاستكباريّة تخشى من تأثير القيادات الفكريّة والوحدويّة الإسلاميّة، والقادرة على دفع التجارب إلى مديات أوسع بل إلى تقارب شرقيّ غربيّ على مستوى الشعوب، يحرج كثيراً من سياسات الحكومات.
5
هذا الأمر يدفعنا نحو الحديث عن حركة «الشيطنة» الثالثة، وهي الفتنة المذهبيّة، المتأجّج أوارها على أثر الانتصارات التي حقّقتها المقاومة في لبنان في العامين 2000 و2006م على وجه الخصوص، والتي شكّلت نموذج أملٍ للمقاومة الفلسطينيّة، في العامين 2008 و2012م المقاومة الفلسطينيّة التي كانت في الأصل مصدر إلهامٍ للمقاومة في لبنان، في تبادليّة تعكسُ انفتاح الحدود أمام التجربة والفكر الجهادي، مقدّمةً لانفتاح العقل أمام الفكر الإسلاميّ الذي ينهلُ من معين القرآن والسنّةِ والعقل وتراكم التجارب…
ممّا لا شكّ فيه، أنّه دُفع بـ «شيطنة» المقاومة الإسلاميّة في لبنان، لتغدو مقاومةً «شيعيّة» بالمعنى الضيّق للمذهبيّة، تغتالُ رموز «السنّة»، كما تمّ تصوير الأمر في اغتيال الرئيس الحريري العام 2005م، وتقتحم مواقع «السنّة»، كما في حوادث أيّار العام 2008م، وتدافع عن النظام «النُّصيري» في سورية في مواجهة المعارضة «السنّيّة»، محمَّلاً بشيطانيّة الانتماء الفارسي للدّولة «الصفويّة»! أو «المجوسيّة»!، بغضّ النظر عن مناقشة الأسباب السياسية والميدانية التي أوصلت إلى تعقيد هذا الموقف، والتي كان كثيرٌ منها يتحرّك لـ»شيطنة» أخرى عُمل عليها في المجال السنّي، والتي استثمرت كثيراً من نقاط الضعف الذاتيّة لإدخال الحركة الإسلاميّة السنّيّة، في أكثر من بلدٍ عربي وإسلاميّ، في إبراز عناصر تفجيرها الذاتي، ما حوّل كثيراً منها إلى حالات بطش وإجرام و»إرهاب» موجّه نحو الداخل الإسلامي والعربي، بدلاً من أن يتلاقى مع الحركة الإسلاميّة الناشئة في المجال الشيعي، ضدّ العدوّ الصّهيونيّ وهذا في حدّ ذاته موضوعٌ على حدة . ومهما كان الأمرُ، أدّى ذلك كلّه إلى إحراج المقاومة الإسلاميّة في فلسطين، التي أصبحت توازنُ بين انتمائها إلى بيئتها المذهبيّة الحاضنة، وبين أن تُضبط متلبّسة بالاقتراب من «الشيطان» الشيعي، حتّى لو كان ذلك يخدم القضيّة المركزيّة… إضافةً إلى «شيطنة» تجربة الحركة الإسلاميّة في العراق، سواء عبر رميها بالعمالة للاحتلال الأميركي، أو بالانغماس في الخطّ المذهبي أو الفساد السياسي أو ما إلى ذلك…
لا شكّ في أنّ منطق الأمور، وبعد التجربة اللبنانيّة المتراكمة للحركة الإسلاميّة في لبنان، أو في العراق، أو إيران، يجعلها أقرب إلى تبنّي كثير من الطروحات الفكريّة التي نظّر لها السيّد فضل الله، وإن لم تنسبْها له صراحةً، سواء على مستوى الانفتاح المذهبي أو الديني أو الإنساني، أو الجمع بين ثبات القضايا الكبرى للأمّة والواقعيّة السياسيّة، ولا سيّما بعدما ابتعدت الحساسيّات التي أفرزتها الحركة الاستخباريّة عن طريق استغلال أفكار السيّد فضل الله التجديديّة والجريئة وطروحاته، لضرب موقعه الفكري والمرجعي القويّ والتقريبي والثابت في مواقع القضايا الكُبرى إلاّ أنّ الفتنة المذهبيّة أعادت شحن العصبيّات الجماهيريّة ضدّ هذا المسار في المدى الآنيّ، لا في المدى الاستراتيجيّ كما نظنُّ.
6
يكادُ القلمُ يُفرغ كلّ قطرةٍ من الحبر ونحن نستغرق في تحليل تلك المرحلة البالغة التعقيد، وفي رصد الواقع المليء بالتحدّيات، ولكن حسبُنا أنّنا أحصينا عدداً من عوامل «شيطنة» التجربة الإسلاميّة الشيعية في أبعادها الفكريّة والحركية والجهادية والسياسية، وبالتالي ما ينبغي التنبّه إليه إذا ما أُريد التفكير جدّياً في حلولٍ واقعيّة وعمليّة، نختصره في اتّجاهين:
«شيطنة» الفكر الإسلامي الشيعي العقيدي، عبر تكفيره وزندقته، عبر الفتنة المذهبيّة التي يجري فيها إلباسُ كلّ موقفٍ شيعي من أيّ قضيّة سياسيّة لبوس كثير من المصطلحات المحمّلة تاريخياً بالكثير من السلبيّات التي عفا عليها الزمن، كتأليه أهل البيت ع ، أو الرفض والموقف من صحابة الرسول ص ، أو التقيّة والمتعة وما إلى ذلك… ذلك كلّه في انعكاسٍ للاستغراق في الحالة التاريخيّة في المجال الإسلامي، تربويّاً وثقافيّاً، بما يُشبه الاستقالة من الحاضر كلّياً أو جزئيّاً بنحوٍ كبيرٍ…
«شيطنة» التشيّع عبر «تأطيره» في حدود الجماعة الشيعيّة لا الفكر المنفتح، بما يعني سدّ أحد أهمّ منابع التجدّد الفكري، والتقريب الإسلامي، وهو «الاجتهاد»، وعبر «تخريفه» بالكثير من الخرافات والأساطير التي لم تجعل المجال الشيعي عرضةً للمخرّفين الذين يتّخذون الخرافة وسيلة لاستغلال طهارة الناس وعفويّة إيمانهم، للمحافظة على مواقع السلطة التاريخية للحالة التقليدية، أو الذين تحرّكهم الأجهزة المشبوهة تنفيذاً لأكثر من مخطّط خبيثٍ.
إلى هنا، نعتقد أنّ الجواب عن السؤال حول الهدف من «شيطنة» التشيّع يُصبح واضحًا لأنّ «شيطنة» التشيّع لا تضرب فحسب أساس الاجتماع الإسلاميّ والوحدة الإسلاميّة، ولا تضيّع القضايا الكبرى المركزيّة في أتون العصبيّات والأحقاد التي أنتجها الماضي حتّى قدّسناها فحسب، إنّما تشلّ الحركيّة والدّيناميّة التجديدية للإسلام نفسه الذي هيّأت له روح العصر الحديث الكثير من قواعده وآليّاته، وأهمّها الحرّية الفكريّة ومنطق العلمِ والدليل… ومن هنا نعتقد أنّ طبيعة المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا جميعاً، إلى أيّ مذهبٍ أو قوميّة أو جهة انتمينا، أصبحت واضحة.