الوحدة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في ظلّ الانقسام 1
رامز مصطفى
منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1 كانون الثاني من العام 1965، لم يحظ أيّ من عناوينها ما استأهلته من الاهتمام والنقاش والجدل، وحتى التباين والخلاف حولهما، أكثر من عنواني الوحدة والمقاومة في الساحة الفلسطينية، لتلازمهما وترابطهما الشديدين ببعضهما البعض. بل أستطيع الادّعاء بأن لا قيمة حقيقية للثورة الفلسطينية من دونهما بالمعنى النضالي والكفاحي. والخلفية التي تقف وراء ذلك، هو أنهما العنوانان اللذان حظيا بإجماع الشعب الفلسطيني، من خارج الفصائل والنخب والمثقفين والكتاب الفلسطينيين، الذين اختلفوا حولهما في ما بعد المرحلة الذهبية للثورة المعاصرة، أو ما اصطلح على تسميتها بمرحلة المدّ الثوري.
وهذا الجدل والنقاش، والذي تدحرج نحو الخلاف في أكثر من محطة ومرحلة، برز تحديداً في مرحلتين:
الأولى المرحلة التي أعقبت حرب تشرين في العام 1973، حيث اتسمت بكثافة الطروحات والأفكار السياسية المتصلة بالتسوية السياسية. الأمر الذي شجع تسلل هذه الطروحات والأفكار إلى الساحة الفلسطينية. وذلك من خلال ما طُرح من رؤية الحل المرحلي، ومن ثم النقاط العشرة، والتي شكلت نقطة التحول في انقسام الساحة الفلسطينية بين جبهة الرفض التي انسحبت فصائلها من منظمة التحرير الفلسطينية، وبين جبهة القبول والتي أطلق عليها «جبهة الاستسلام». واتضحت هذه المرحلة بعد موافقة السادات على الذهاب إلى الكيان الصهيوني من أجل إبرام «اتفاق سلام» معه. حيث مثلت خطوة السادات في توقيعه على اتفاقات «كامب ديفيد»، مع مناحيم بيغن، برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر في آذار من العام 1978، أولى الخطوات الاستراتيجية في ما شهدته المنطقة من تدحرج الموقعين على اتفاقات «أوسلو» عام 1993، و«وادي عربة» عام 1994.
أما المرحلة الثانية فهي التي تلت خروج منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها من بيروت في آب من العام 1982 بموجب الاتفاق الذي وقعه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير آنذاك الراحل عرفات مع فيليب حبيب. وأخذ الخلاف والانقسام السياسي مداه بعد موافقة منظمة التحرير على مقررات قمة فاس الثانية في تونس أواخر العام 1982، والتي اعترفت بـ«إسرائيل». بعد أن فشلت قمة فاس الأولى في تمرير مبادرة ولي العهد السعودي فهد بن عبد العزيز. وهكذا تدحرجت في تسارع غير مسبوق الخطوات السياسية التي أفضت إلى «اتفاقات أوسلو» عام 1993، والتي مهّدت لها اجتماعات «مؤتمر مدريد للسلام» برعاية جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف في تشرين أول عام 1991، بحضور وفود من سورية الأردن لبنان منظمة التحرير والكيان الصهيوني ، وعمرو موسى أمين عام الجامعة العربية آنذاك. والتي بدورها ما كانت لتعقد لولا حدثين استراتيجيين، الأول تمثل بحرب الخليج الثانية عاصفة الصحراء عام 1991، ضدّ النظام العراقي برئاسة صدام حسين. أما الثاني وهو بدء انهيار الاتحاد السوفياتي.
الوحدة الوطنية
لقد احتلت الوحدة الوطنية الفلسطينية في الوجدان والوعي الفلسطيني الحيّز الأكبر، لما تمثله وفي ظلّ ما تعرّض له الشعب الفلسطيني من نكبة في العام 1948 شرّدته داخل وخارج وطنه. ولم يقف موضوع الوحدة الوطنية عند حدود ما يمثله في الوعي الجمعي الفلسطيني، بل إنّ الخطاب السياسي الفلسطيني أفرد لهذا الموضوع الكثير من التأكيد على أهميتها، خصوصاً عندما كانت المخاطر والتحديات تتزايد. ولو عدنا إلى البرامج السياسية وأدبيات الفصائل الفلسطينية على تلاوينها الفكرية القومية والعلمانية والإسلامية، لوجدنا أنّ الوحدة الوطنية تمثل القاسم المشترك بينها، وأن لا خلاف نظرياً في ما بينها في التأكيد على أهميتها. ولكن عند التطبيقات العملية نجدها تتعثر، بل تتحوّل وتحوّلت مادة للسجال والاتهام والتراشق السياسي والإعلامي بين الفصائل، وتحديداً بعد العام 2007، وما حصل في قطاع غزة من أحداث دموية مؤسفة بين حركتي حماس وفتح انتهت بسيطرة حماس على القطاع.
البريق الجاذب للوحدة الوطنية أخذ يخفت بسبب ما تعانيه الساحة الفلسطينية من انقسام حادّ، لم يسبق له مثيل، الأمر الذي انعكس سلباً على القضية الوطنية، حيث وظف الكيان الصهيوني ذلك في فرض وقائعه في الاستيطان والتهويد والاغتيال والاعتقال واستمرار حصار قطاع غزة، الذي تعرّض لحروب عدوانية ثلاثة منذ العام 2008 2009 وحتى العام 2014. هذا من جهة ومن جهة ثانية ونتيجة هذا الانقسام، بدأت مكانة الفصائل بالتآكل لدى جمهورها التي تتسع هوة عدم الثقة بينهما، بل في كثير من الأحيان هناك نبرة عالية لا تخلو من الاتهام خرجت العديد من التظاهرات في غزة والضفة والشتات، تطالب بإنهاء الانقسام. ورفعت شعار الشعب يريد إنهاء الانقسام . وهذا لا يعني في المقابل أنّ شعبنا تخلى عن خياراته وتبنيه وتمسكه بالفصائل عندما وقعت حماس وفتح على اتفاق مخيم الشاطئ في نيسان 2014، من أجل تطبيق اتفاق المصالحة. خرجت التظاهرات المرحبة بهذا الاتفاق .
وخلاصة القول في موضوع الوحدة الوطنية، إنها ستبقى التطلع الذي يعمل عليه الشعب الفلسطيني، لأنها شرط أساسي من شروط الانتصار. ومن قبلها في مواجهة التحديات ذات العناوين المتعددة، التي تلتقي عند نقطة واحدة هي شطب وتصفية القضية الفلسطينية. وستبقى الوحدة الوطنية أيضاً خياراً لدى جموع الشعب الفلسطيني، وإنْ طغى الانقسام على المشهد الفلسطيني.
المقاومة
المقاومة والوحدة الوطنية متلازمتان، لا إمكانية على الإطلاق للسير في موضوع دون الآخر. لذلك تمثل المقاومة الخيار الأكثر تجذراً بمعناها الوطني والأخلاقي عند الشعب الفلسطيني قبل أن تتمثل في وجدانه ووعيه. شعبنا الذي تعرّض إلى أبشع جريمة في القرن الماضي، على يد المجتمع الدولي، الذي غطى العصابات الصهيونية، ومكّنها من طرد الشعب الفلسطيني عام 1948. ومن دون الإسهاب في الشروح. فقد تعرّضت المقاومة بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982، وتسارع المبادرات السياسية المتصلة في كيفية إنهاء الصراع، والذهاب نحو الانخراط في التسوية. حيث مثل «مؤتمر مدريد» عام 1991، واتفاقات «أوسلو» عام 1993 التتويج في الانعطاف نحو جنوح الساحة الفلسطينية بثقلها الذي مثلته حركة فتح آنذاك، لصالح الانغماس في السلطة ودهاليزها من موقع حزب السلطة.
منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، لم تكن مسألة المقاومة نقطة خلافية بين الفصائل، بل هي نقطة إجماع كما مسألة الوحدة الوطنية. وبرامج الفصائل أكدت على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بكلّ أشكالها والكفاح المسلح في مقدمتها، فآلاف العمليات الفدائية والاستشهادية داخل الأرض المحتلة، هي من أوصلت منظمة التحرير إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومكنت الراحل أبو عمار من إلقاء خطاب أمام أعضائها في تشرين الثاني العام 1974. والمقاومة وعملياتها الاستشهادية في عمق الكيان هي من دفعت شارون إلى الانسحاب من قطاع غزة عام 2005. والمقاومة في قطاع غزة هي من هزمت الكيان الصهيوني في حروبه الثلاثة التي شنها على القطاع.
والمقاومة في رؤيتنا هي السبيل والطريق من أجل هزيمة الكيان ومشروعه الصهيوني، على اعتبار أنّ قضيتنا تواجه تحدياً وجودياً في الصراع مع هذا الكيان بسبب مشروعه وطبيعته الاستيطانية الإحلالية، والذي تحكمه إيديولوجيا دينية. حيث تتأكد اليوم طبيعة هذا المشروع من خلال قانون «الدولة القومية للشعب اليهودي». الذي أقرته حكومة نتنياهو قبل انتخابات «الكنيست» الأخيرة.
ودخلت إلى مفهوم المقاومة مفاهيم جديدة تتناسب والتوجهات والخيارات السياسية لأصحاب خيار المفاوضات المقاومة الشعبية المقاومة الدبلوماسية مقاومة مقاطعة البضائع الإسرائيلية.. الخ . على أحقية شعبنا وقواه في انتهاج المقاومة بكلّ أشكالها، ولكن هذه المقاومات يجب أن تكون جزءا من منظومة المقاومة الشمولية وليست مقاومة خاضعة لانتقائية السلطة الفلسطينية، من دون إقرار حقنا في المقاومة المسلحة والتجرّؤ عليها من خلال وصمها بالإرهاب.
نعم المقاومة الشعبية حق، والمقاومة المسلحة حق، والمقاومة الديبلوماسية حق، ومقاومة الجدار حق، ومقاطعة البضائع والمنتوجات «الإسرائيلية» حق، والمقاومة الثقافية والأدب والشعر والغناء الملتزم حق، ومقاومة إبراز التراث الفلسطيني حق… الخ. ولكن ما هو حق أكثر وأعمق وأجدى هي المقاومة المسلحة. وبالتالي لا ضير في وضع استراتيجية مقاومة تتكامل فيها كلّ المقاومات المتاحة، والتي لا تنتقص من حق شعبنا في ممارسة المقاومة المسلحة. مع عدم إغفال حماية المقاومين من بطش التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية في السلطة، والأجهزة الأمنية للاحتلال.
وإذا كان هناك من يستند في حجته إلى نضال ومقاومة غاندي تحت مسمّى «الكفاح اللاعنفي» في مواجهة الاستعمار البريطاني، يتناسى هؤلاء أنّ مقاومة غاندي لم تنجح إلاّ بعد مضيّ 200 عام. وما كان ذلك ليتحقق لولا خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية خائرة القوى. وبدورنا لا بدّ من إنعاش ذاكرة هؤلاء، في أنّ الشعب الفيتنامي لم يحقق انتصاره عبر المفاوضات التي عقدها مع الأميركيين في باريس. وما تحقق من انتصار كان بفضل المقاومة. وحتى لا نذهب بعيداً، هنا في لبنان لم ينسحب العدو الصهيوني عام 2000 من الجنوب طوعاً، بل مرغماً وبفضل المقاومة. وأكثر فشارون سارع إلى الانسحاب من قطاع غزة. ليس رغبةً منه، بل هي المقاومة التي أرغمته على ذلك. وكلنا يذكر كلمات إسحاق رابين حين قال «أتمنى أن أستيقظ في الصباح وأجد البحر قد ابتلع غزة».
إنّ الملاذ الآمن للمقاومة وحصنها المنيع، وسياجها كان وسيبقى الوحدة الوطنية. ومن دون ذلك ستبقى المقاومة عُرضة للاستهداف من قبل أعدائها أو من يجدون اليوم أنها لم تعد مجدية أو محققة للتطلعات والأماني الوطنية. وقد شاهدنا جميعاً كيف أنّ انتصار المقاومة في قطاع غزة بعد عدوان استمرّ 51 يوماً، قد جعل الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده في الوطن والشتات يخرج إلى الشوارع محتفلاً بالنصر الذي حققته المقاومة المؤيدة والمباركة من كلّ فئات أبناء شعبنا الفلسطيني. وعكس ذلك سيبقى الانقسام يمثل الخنجر في ظهر الوحدة والمقاومة، بل والقضية.