الانتقال من الصبر الاستراتيجي إلى الفعل الاستراتيجي
سعادة مصطفى أرشيد*
على مدى أسبوعين طوال حلقت الحكومة (الإسرائيلية) ورئيسها في السماء السابعة متبجحة بإنجازاتها وانتصاراتها، وبما أثبتته من قدرات اختراق أمنية أدّت إلى ضرب المقاومة في لبنان ضربات موجعة نالت من قياداتها الرفيعة وحاولت المساس في أليات التحكم والسيطرة، ومن هيبتها وصولاً إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله ناظم إيقاع المقاومة وقائدها لا بل وحتى من الممكن القول إنه قائد لمحور المقاومة في شرق المتوسط على مدى ثلاثة عقود ونيّف وأصبحت أجيال شابة من أمتنا ومن عالمنا العربي معتادة على صورته وصوته وقيادته حتى أنها لا تعرف غيره.
مقابل شعور (الإسرائيليين) بالانتصار والظنّ بأنهم قد استردوا قدراتهم الردعيّة التي كانت في زمن مضى، أو أنهم قد أضافوا إليها الكثير، فإن الأمر في الوقت ذاته قد آلمنا وأحزننا إذا أردنا أن نتكلم بالعقل الواعي والمدرك لتعقيدات الصراع، وأصاب بعضاً منّا ممن تمتلكه العاطفة الجيّاشة بالإحباط والظن أن ما حققه الاحتلال كان انتصاراً صفرياً علينا.
تعاني المقاومة اللبنانيّة من أوقات صعبة ولا شك، فقد خسرت قائدها الذي اعتادت عليه والذي قادها للنصر في المعارك الخارجيّة وللسلامة في المعارك الداخليّة، وهي مضطرة لمعالجة ثلاث مسائل كبيرة في وقت واحد وأثناء خوضها المعركة الضارية: 1- انتخاب أمين عام جديد قادر على الحلول محل قائدها البشوش صاحب الكاريزما والحضور الطاغي، 2- معالجة الخرق الأمني الواسع، 3- ثم استرداد المبادرة وإعادة القوة الردعية المعادية إلى مكانها السابق المهتزّ، فهذا ما يُعيد الثقة بالمقاومة وقدرتها التي ضربت لدى جمهورها، وأثارت موجة من البهجة والشماتة لدى أعدائها. وإذا كانت المشاعر الأولى طيبة وحسنة النية على إحباطها فإن الأخرى حاقدة حاملة أجندات معادية، ولكن كلتا النظرتين لا تريان السياسة بأبعادها وإنما تريانها بمنطق تبسيطيّ وكأنّها مشاجرة في قرية أو خلاف عائلي.
في حين شعرت المقاومة اللبنانية بأن مشاعر الغضب التي أعقبت اغتيال الأمين العام قد تتحوّل مشاعر إحباط سوف تؤدي إلى إيذاء البيئة الحاضنة لها والتي أصبحت تطرح الأسئلة حول جدية محور المقاومة ووحدة الساحات، وقدرته على حمايته أطرافه، الأمر الذي طال بشكل أكثر إيران وطرح سائله أكثر حراجة تلاحقت منذ استشهاد الرئيس الإيراني السابق محمد رئيسي والشكوك التي أحاطت بظروف الحادث ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي في حركة حماس في قلب طهران وفي مربعها الأمني الأكثر حصانة، وتساءل الجمهور لو أن طهران كانت قد ردت على عملية استشهاد إسماعيل هنية فربّما كان من الممكن تجنّب خسارات السيد حسن نصر الله.
حسب ما قال الرئيس الإيراني إن عدم الرد على استشهاد هنية كان بسبب وعود أميركية بإنهاء الحرب على غزة، الأمر الذي تعاملت معه طهران بطريقتها المعهودة التي تتسم بالأناة والبرودة، لكن تلاحق الأحداث وانكشاف الخدعة التي ادعت بأن الحرب ستتوقف دعا إيران للإدراك أولاً أنها في طريقها لخسارة قوتها الناعمة المتمثلة بالرأي العام المؤيد للمقاومة، وذلك على صعيد كامل المحور الأمر الذي يمثل خسارة فادحة للمشروع الإيراني الطموح، وثانياً ما يراه العقل الاستراتيجي الإيراني أن الحرب تزحف باتجاه طهران وهي آتية إليها ولا ريب، ولذلك فمن الافضل أن تقابلها هي والمبادرة بالذهاب إليها.
النزول (الإسرائيلي) من أعالي السماوات وعودة الانخفاض السريع لروحهم المعنوية بدا قبل ساعات من وصول الصواريخ الإيرانية، وذلك بعد العملية النوعية التي نفذها مقاومان مسلّحان بسكين في تل أبيب أدّت إلى مصرع ثمانية (إسرائيليين)، حسب البيان الرسمي (الإسرائيلي)، وشاهد العالم صور رجال الشرطة والجنود وهم يهربون أمام المقاتلين المسلحين بسكين وببندقية سلباها من أحد الجنود ويتركون الجرحى والقتلى على الأرض، ثانياً قبل ساعات من وصول الصواريخ الإيرانية أعلنت الحكومة للجبهة الداخلية مجموعة من التعليمات تنص في ما تنصّ على عدم المشاركة في تجمعات تزيد على 30 نفراً، وضرورة البقاء في أماكن قريبة من الملاجئ، وعلى أن سكان البنايات التي يقيمون في الطابق الخامس فأعلى أن يغادروا بيوتهم إلى أماكن منخفضة، الأمر الذي جعل كثيراً منهم يتوجهون إلى الحدائق والساحات العامة والمدارس التي اكتظت بهم وهو ما طرح السؤال – (إسرائيلياً) من جديد حول العجز عن إعادة مستوطني الجليل إلى أماكن استيطانهم في شمال فلسطين المحتلة والذين دفعتهم المقاومة اللبنانية للهروب منذ الأيام الأولى للحرب، وكانت تعد بإعادتهم قريباً في أسبوعي النشوة الطارئة، وإذا بها تهجر سكان تل أبيب وحيفا والقدس والمدن الكبيرة من الطوابق العليا في البنايات والأبراج السكنية وتعجز عن حمايتهم، فيما نشرت الفضائيّات مشهد رئيس الوزراء فور سماعه صفارات الإنذار ببدء انطلاق الصواريخ الإيرانية وهو يهرول مرتعداً نحو الملاجئ المحصنة بعد أن قال قبل أيام إن بيت المقاومة هو بيت العنكبوت فيما بيت «إسرائيل» من حديد وفولاذ.
حقاً كانت ليلة بهيجة وبضربة واحدة سقطت هيبة الردع وأعيد تعريف بيت العنكبوت تعريفاً صحيحاً ووصلت صواريخ كثيرة لأهدافها، الأمر الذي تُنكره حكومة الاحتلال وأعلنت في محاولتها لإخفاء الحقيقة أنها ستعاقب مَن يصوّر مشاهد الصواريخ وأماكن وقوعها.
بهذا نفد الصبر الاستراتيجي أو قارب على النفاد مخلياً موقعه للفعل الاستراتيجي. وبهذا يتأكد المؤكد القائل: إن القوة هي قول الفصل في إثبات الحقوق القومية أو إنكارها.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين – فلسطين المحتلة