نقاط على الحروف

الخامنئي: الأمر لي

ناصر قنديل

ربما لا ينتبه البعض من المتابعين والمحللين إلى أن هناك معنًى خاصاً لإطلالة الإمام علي الخامنئي أمس، برمزية مدروسة لكل تفاصيل الإطلالة. ويفوت بعضهم أيضاً أن الإمام الخامنئي بدأ دوره في تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران مشرفاً على الملف العسكري، بصفته مديراً لجبهة الحرب التي يسمّيها الإيرانيون بالحرب المفروضة، وهي الحرب التي شنّها النظام العراقي السابق على إيران. وكان في الوقت نفسه ممثل الإمام في المجلس الأعلى للدفاع المسؤول عن تعبئة القوات المسلحة وإدارتها بكل فروعها، وإنه شخصياً أشرف على تأسيس حرس الثورة الإسلاميّة، وصدّق نظام تأسيسه واختار قيادته المؤسسة ووظائفه ومنها دعم حركات المقاومة في المنطقة، التي كانت المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله أولى قواها التي حظيت برعايته الشخصيّة منذ العام 1982، ونشأت بينه وبين قادتها وخصوصاً الشهيدين القائدين السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصرالله، علاقة شخصيّة مميّزة، كان متاحاً لها بسبب المدة والظروف والخصوصيّة أن تتوطّد مع السيد نصرالله خصوصاً بعد انتصار العام 2000 ثم انتصار عام 2006، لتصبح أقرب إلى علاقة أبويّة وعلاقة صداقة وعلاقة ثقة. وكان مَن يسمع الإمام الخامنئي وهو يتحدّث عن عبقريّة السيد نصرالله ومواهبه القياديّة وعرفانه وتنسّكه وزهده وأخلاقه وشجاعته وحكمته واستعارته التي يستخدمها في هذا الحديث بالتشبيه في كل ميزة بأحد الأئمة، كان يتوقّع أن يبدأ الإمام الخامنئي كلمته بوضع السيد نصرالله في منزلة صاحب الفضل على إيران، مثل علماء جبل عامل المؤسسين لمذهب التشيّع في إيران.
يقول بعض الرواة الموثوقين، إنه عندما التزم السيد نصرالله بإعادة إعمار الضاحية خلال حرب تموز 2006 لم يكن قد تشاور مع القيادة الإيرانيّة، لكن وعده كان كافياً عند الإمام الخامنئي لتحويله إلى أمر تنفيذيّ في الدولة الإيرانيّة ومؤسسات المرجعية الدينية، وإن أمراً شبيهاً حصل يوم تعهّد السيد نصرالله بجلب بواخر المازوت الى لبنان، مساهمة بحل أزمة المحروقات. وبعد استشهاد القائد قاسم سليماني صارت مكانة السيد نصرالله عند الإمام الخامنئي تعني جبهات المقاومة العربية كلها. وقد كرّر الخامنئي مراراً موقف السيد نصرالله من اليمن ودموعه التي انهمرت عندما سأل اليمنيين وهم يتبرّعون لفلسطين، وهل لديكم يا سيدي خبزاً أصلاً كي تتقاسموه مع الفلسطينيين، بعدما قال قائد أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي في إطلاق حملة التبرّع سنتقاسم الخبز مع الفلسطينيّين. وكان الإمام الخامنئي يعلّق لقد حرق قلوبنا السيد نصرالله بهذا الطهر وهذه الروح وهذا الموقف، ويضيف لا يفعل هذا إلا الأولياء. وبمثل ثقة الإمام الخامنئي أن مغادرة السيد نصرالله للمشهد لا تعني سقوط حزب الله، قناعته بأن غياب السيد ألقى على عاتقه مسؤوليّة ضخمة كان يثق بأن السيد يحملها عنه، وليس من أحد سواهما بقادر على حملها، هي مسؤوليّة إدارة الحرب مع مشروع الهيمنة الأميركية والعدوان الصهيوني على المنطقة.
خروج الإمام الخامنئي من منبره الحربيّ الذي مثلته منصة خطبة الجمعة على مدى عقد كامل قبل توليه خلافة الإمام الخميني، ليس تفصيلاً هنا، بل هو إعلان عودة إلى تلك الأيام التي كان يقود فيها الحرب، وهو عائد إلى قيادة أصعب الحروب اليوم، مستنهضاً الشعب والمؤسسات في إيران لتحمل التبعات المترتبة على هذا القرار، لأن لا مكان لإيران في المنطقة، بعزتها وكرامتها، إن تمكّن المشروع الأميركيّ الإسرائيليّ من تحويل اغتيال السيد نصرالله، إلى نقطة تحوّل في توازنات المنطقة لصالحهم، وهذا يعني أن الردّ الإيرانيّ على اغتيال الشهيد القائد إسماعيل هنية تحوّل الى منصة ذات صفة استراتيجية بعد اغتيال السيد نصرالله، وما قاله الإمام الخامنئي واضح لجهة إعطاء الأولوية لوقف الاندفاعة العدوانيّة الوحشيّة والإجراميّة الحاليّة لكيان الاحتلال المستقوي بالدعم الأميركي المفتوح، بالقول إن إيران في الميدان الآن، لفرض هذا التوقف بالقوة إذا استدعى الأمر، وإن هذا هو جوهر رسالة الردع التي حملها الرد الإيراني، وإن لا مانع من تكرار الرد بقوة أكبر إذا لم تُقرأ الرسالة جيداً من الجانب الأميركي القادر على لجم الاندفاع الإسرائيلي، وإن إيران جاهزة لكل العواقب المترتبة على هذا القرار، بما في ذلك احتمال تحوّل الردود المتبادلة الى حرب، لأن حدوث ذلك يعني أن هناك قراءة أميركية مشتركة مع كيان الاحتلال تقول بوجود فرصة لإضعاف إيران، وإيران تصبح معنية من موقع الدفاع عن أمنها القومي بإفهام الأميركي والإسرائيلي أنّهما يلعبان بالنار، وسوف يدفعان الثمن.
إيران تقرأ الاستراتيجيات جيداً، وتعلم صحة ما قالته على لسان الإمام الخامنئي نفسه حول انتقال ثقل العالم من الغرب إلى الشرق، والمأزق الأميركي ليس خيالاً جميلاً، بل هو واقع قائم، لكن حالة الإنكار الأميركية للتراجع هي ما يسبّب المزيد من الحروب، وتراجع عناصر القوة الاستراتيجية لكيان الاحتلال، وعجزه أمام مقاومة الشعب الفلسطيني حقيقة تقولها حرب سنة كاملة في قطاع غزة، والتوحش الإجرامي الإسرائيلي ليس إلا تعبير عن المكابرة في الإقرار بالعجز عن تحقيق النصر، وإيران الواقعية أيضاً ترى أن الموازين ليست لحسم الصراع مع المشروع الأميركي الإسرائيلي، لكنها واثقة بأن فرض التراجع على هذا المشروع نحو توازنات تحفظ حقوق شعوب المنطقة ومقاوماتها، هي فرص حقيقيّة، وأن إيران معنية بالشراكة في مواجهة تفرض هذه النهاية، غرماً وغنماً، بلغة الأخلاق والدين والمصالح معاً، بلغة المشاعر والعواطف والعقل معاً.
الخامنئي وجّه رسالة غير مباشرة لبايدن، بقوله عملياً، الأمر لي، على أن يبادله بايدن المثل بلجم التوحّش الإسرائيلي منعاً للحرب التي تقول واشنطن إنها لا تريدها، وإن حدث العكس فلذلك معنى واحد هو أن أميركا تريد هذه الحرب وعليها دفع فاتورتها لأن إيران تعلن بلسان الإمام الخامنئي أنّها مستعدة. التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى