عربيات ودوليات

لافروف يلخّص مخاطر كبرى تواجه العرب والعالم.. ودور الغرب في إشعال الحروب من فلسطين ولبنان حتى أوكرانيا (1/2)

* الأمن إما أن يكون متساوياً وغير قابل للتجزئة للجميع، أو لن يتوفر لأي أحد

* أي نوع من التعاون العالمي يمكن أن نتحدث عنه عندما يدوس الغرب على كل تلك «القيم الثابتة» للعولمة التي دعا إليها لسنوات عديدة؟

 

نشر موقع وزارة الخارجية الروسية مقالاً للوزير سيرغي لافروف ناقش فيه بالتفصيل ميثاق هيئة الأمم المتحدة والوضع الدولي الراهن ودور الهيئة لاستعادة دورها كمركز لتنسيق أعمال الأمم. وجاء في المقال:

اختتمت مؤخراً النقاشات السياسية العامة للدورة الـ 79 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، والتي كنتم فيها ممثلا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهل هناك من مستقبل لـ «ميثاق المستقبل»؟
لقد عقد، في إطار أسبوع الأمم المتحدة رفيع المستوى الذي عادة ما يصادف عادة الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر، منتدى بعنوان “قمة المستقبل”، وهو ما استجابت له روسيا بتفهم لفكرة الأمين العام أنطونيو غوتيريش لعقد مثل هذا المنتدى، لأن أزمة المنظمة العالمية تتعمق، ويجب القيام بشيء ما حيال ذلك. وقد شارك الدبلوماسيون الروس بصدق في الاستعدادات لهذا الاجتماع، رغم أنه لم يكن لدينا أي أوهام بهذا الصدد. علاوة على ذلك، شهد تاريخ الأمم المتحدة عدداً من الأحداث الطموحة التي بلغت ذروتها بإعلانات ذات ضجة سرعان ما تمّ نسيانها بعد فترة.
ولنتذكر قمة الألفية التي عقدت عام 2000، وأعلنت مهمة “تحرير الشعوب من ويلات الحروب”. وبعد أكثر من عامين بقليل قامت الولايات المتحدة الأميركية، على رأس “تحالف الراغبين”، وتحت ذريعة سخيفة، بغزو العراق دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولا يزال العراق غير قادر على التعافي من العواقب المدمّرة لمغامرة هذا الغزو.
ثم أعلنت “القمة العالمية” التي عقدتها الأمم المتحدة عام 2005، والتي تمّ الإعلان فيها عن إقامة عالم عادل وفقاً لمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة. ولم يمنع هذا “الالتزام المقدس” واشنطن وحلفاءها من تحريض رئيس جورجيا آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي على شن عدوان مسلح ضد شعب أوسيتيا الجنوبية وقوات حفظ السلام الروسية عام 2008. وبعد ثلاث سنوات فقط، نظم “الناتو” تدخلاً عسكرياً في ليبيا، ما أدّى إلى تدمير الدولة الليبية وتقويض استقرار البلدان المجاورة ومنطقة الشرق الأوسط ككل.
وفي عام 2015، اعتمدت قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة خططاً طموحة لمكافحة الفقر وعدم المساواة. في واقع الأمر، تبين أنها جميعا وعود فارغة على خلفية إحجام الدول الغربية عن التخلّي عن الممارسات الاستعمارية الجديدة المتمثلة في نهب ثروات العالم كله لصالحها. يكفينا في هذا الصدد إلقاء نظرة على الإحصائيات المتعلقة بالوفاء بالوعود لتمويل تنمية بلدان الجنوب العالميّ ونقل التقنيات الصديقة للبيئة.
ومثل كوفي عنان، وبان كي مون في حينهما، طرح غوتيريش مبادرته تحت شعار “إعادة تشغيل” التعاون العالمي. شعار عظيم، لا يمكن أن يكون أحد ضده ولكن، أي نوع من التعاون العالمي يمكن أن نتحدث عنه عندما يدوس الغرب على كل تلك “القيم الثابتة” للعولمة التي دعا إليها لسنوات عديدة من جميع المنصات، لإقناعنا بأنها ستضمن المساواة في وصول الجميع إلى منجزات الحضارة الحديثة. فأين حرمة الملكية الفردية، وحسن النيات، وحرية التعبير، والحصول على المعلومات، والمنافسة العادلة في الأسواق وفق قواعد واضحة وثابتة؟
هل حان الوقت حقاً للحديث عن التعاون العالمي في اللحظة نفسها التي تشنّ فيها الدول الغربية حرب عقوبات حقيقية ضد نصف دول العالم، إن لم يكن ضد أغلبيتها، وعلى الدولار الذي تمّ الإعلان عنه باعتباره عملة وإنجازاً ومنفعة لكل الإنسانية جمعاء، ليصبح فيما بعد سلاحاً ضد الدول غير المرغوب فيها؟
إن الحصار التجاري المفروض على كوبا مستمرّ منذ أكثر من 60 عاماً، وتطالب الأغلبية الساحقة من أعضاء المجتمع الدولي برفعه. وفي سعيها لتحقيق هدف سريع الزوال على نحو متزايد، بالحفاظ على هيمنتها، تعمل واشنطن على عرقلة العمل الطبيعي لمنظمة التجارة العالمية لحل النزاعات وإصلاح مؤسسات “بريتون وودز”، التي لم يعكس هيكلها منذ فترة طويلة توازن القوى الحقيقيّ في الاقتصاد العالمي والتمويل، فيما تشير جميع الإجراءات الغربية في هذا المجال إلى أن الولايات المتحدة وأتباعها يخافون ببساطة من المنافسة العادلة.
بل ووصل الأمر إلى حد أن الغرب يريد أيضاً تحويل الأمم المتحدة نفسها إلى أداة لتعزيز أهدافه الأنانية، وكما أظهرت قمة المستقبل، فهناك محاولات متزايدة لتخفيف الطبيعة الدولية البينية للمنظمة العالمية. وتمت إعاقة التغييرات التي طال انتظارها في أساليب تعيين موظفي الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهي المناصب الرئيسية التي تشغلها الآن البيروقراطية فعلياً، و”ورثتها” عن الأقلية الغربية. وإذا كان الأمين العام يدعو إلى “إعادة تشغيل” التعاون العالمي، فيتعين على الأمانة العامة أن تعمل على تعزيز وتوحيد الأفكار، وتقديم خيارات للتسوية، وعدم اختراع الأعذار لإدخال روايات مفيدة للغرب في عمل الأمم المتحدة.
ولم يفت الأوان بعد لبث حياة جديدة في الأمم المتحدة. ولكن من غير الممكن أن يتم ذلك بمساعدة مؤتمرات القمة والإعلانات المنفصلة عن الواقع، بل من خلال استعادة الثقة استناداً إلى المبدأ القانوني: المساواة في السيادة بين كافة الدول. وحتى الآن هذا لا يحدث. ويتم تقويض الثقة، بما في ذلك من خلال تصرّفات الغرب، مثل إنشاء صيغ ضيقة تحت سيطرته، متجاوزاً الأمم المتحدة، لحل القضايا الخطيرة وحتى المصيرية. ومن بينها حوكمة الإنترنت، وتحديد الإطار القانوني لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، تؤثر هذه المشكلات على مستقبل البشرية جمعاء، لذا يجب النظر إليها على أساس عالميّ، ودون تمييز أو رغبة في تحقيق مزايا أحادية.
وهذا يعني أنه من الضروري التفاوض بأمانة، بمشاركة كافة أعضاء الأمم المتحدة، وليس بالطريقة التي تم بها إعداد ميثاق المستقبل: دون عقد جولة واحدة من المفاوضات، تشارك فيها كافة البلدان. وبدلاً من ذلك، تم تنفيذ العمل تحت سيطرة المتلاعبين الغربيين. ونتيجة لهذا، فقد حشرت في الميثاق، قبل حتى أن تخرج إلى الوجود، مجموعة من الإعلانات التي صيغت على نحو منمق باللغة الإنجليزية، وهو مصير هذا النوع من “المنتجات” في القمم العالمية مع الأسف الشديد.

العالم والأمن

وليس الوضع أفضل في ما يخصّ تنفيذ قرارات مجلس الأمن، التي تعتبر ملزمة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. وقد لاحظنا جميعاً تخريب القرارات المتعلقة بتسوية كوسوفو واتفاقات دايتون بشأن البوسنة والهرسك. ويظل المثال الأكثر فظاعة هو المماطلة التي تقترب الآن من ثمانين عاماً في التوصل إلى قرارات توافقية بشأن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة (…). وإن قتل الفلسطينيين بالأسلحة الأميركية يجب أن يتوقف فوراً، ولا بدّ من ضمان إيصال الإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة، ولا بد من تنظيم عملية ترميم للبنية التحتية. والأهم من ذلك، من الضروري ضمان تنفيذ حق الفلسطينيين المشروع في تقرير المصير والسماح لهم، بالأفعال “على الأرض” وليس بالأقوال، بإقامة دولة مستدامة إقليمياً وقابلة للحياة (…).
والمثال “الصارخ” الآخر للأساليب الإرهابية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسيّة هو الهجوم اللاإنساني على لبنان من خلال تحويل التكنولوجيا المدنية إلى أسلحة فتاكة. ويجب التحقيق في هذه الجريمة فوراً. لكن من المستحيل بالفعل تجاهل عدد من المنشورات في وسائل الإعلام، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تشير بطريقة أو بأخرى إلى تورّط واشنطن وعلى الأقل الوعي بالتحضير لهجوم إرهابي.
إننا نفهم أن الأميركيين يُنكرون دائماً كل شيء وسيبذلون قصارى جهدهم “لإسكات وطمس” الحقائق التي ظهرت. وهذا بالضبط ما فعلوه رداً على الأدلة الدامغة التي تثبت تورطهم في الهجمات الإرهابية على خطوط أنابيب الغاز “السيل الشمالي”. وبالمناسبة، كانت خطوط أنابيب الغاز هذه رمزاً رائعاً “للتعاون العالمي” الذي يحلم به الأمين العام للأمم المتحدة. ونتيجة لتدميرها تم تقويض القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي في الاقتصاد العالمي لسنوات عديدة لصالح الولايات المتحدة. كما يتحمل الغرب مسؤولية إخفاء الحقيقة عن منظمي عدد من الجرائم الشنيعة الأخرى، بما في ذلك الاستفزاز الدمويّ في ضاحية بوتشا بكييف، أبريل 2022، وسلسلة عمليات تسميم المواطنين الروس في إنجلترا وألمانيا.
ولا يمكن للأمانة العامة للأمم المتحدة أن تظل بمعزل عن الجهود المبذولة لكشف الحقيقة في المواقف التي تؤثر بشكل مباشر على الأمن العالمي. وفي الوقت نفسه، فهي ملزمة بالامتثال الصارم للمادة 100 من ميثاق المنظمة، والتي تنص على التصرف بنزاهة وتجنب إغراء التعاون مع دول فردية، لا سيما تلك التي لا تدعو صراحة إلى التعاون، كما لمح جوزيب بوريل ذات مرة: بتقسيم العالم إلى “حديقة” و”غابة” أو إلى “حديقة” و”غابة”، “الرواد على مائدة الديمقراطية” و”الموجودون على قائمة الطعام”.
ولن يكون من الخطأ أن نتذكر مرة أخرى “سجل إنجازات” أولئك الذين يطالبون بقية العالم باتباع “قواعدهم”، فيما رافق غزو أفغانستان والبقاء المخزي هناك لعقدين من الزمان تشكيل تنظيم “القاعدة”، وكانت النتيجة المباشرة للعدوان على العراق ظهور تنظيم “داعش”، وأدى اندلاع الحرب في سورية إلى ظهور الجماعة الإرهابية جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام” الآن. ويواصل التحالف الغربي شن ضربات على الأراضي السورية، ما يلهم النظام في كييف للقيام بأنشطة إرهابية مماثلة في المناطق الروسية، عندما يتعرّض المدنيون والبنية التحتية المدنية للهجوم، بالمناسبة، بمساعدة مباشرة من الغرب نفسه. وعلى أراضي سورية، يقوم نظام زيلينسكي بالتنسيق مع الأميركيين، بتدريب إرهابيي “هيئة تحرير الشام” على التقنيات الجديدة لإنتاج الطائرات المسيرة لغرض العمليات القتالية ضد القوات المسلحة الروسية الشرعية في سورية.
في المقابل، فتح تدمير ليبيا على يد الغرب الباب على مصراعيه أمام تغلغل الإرهاب في منطقة الصحراء والساحل، وأدى تدفق الملايين من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. ويجب على كل من يفكر في مستقبل بلدانه وشعوبه أن يكون يقظاً للغاية بشأن المغامرات الجديدة لمخترعي هذه “القواعد” ذاتها.
كما أن أساليب الاغتيالات السياسية التي أصبحت شبه شائعة، كما حدث في 31 يوليو بطهران، و27 سبتمبر في بيروت، تثير قلقاً بالغاً. وبعد أن شنت “إسرائيل” غزوها البري على لبنان ليلة الأول من أكتوبر، لم تصدر كلمة إدانة واحدة من الإدارة الأميركية بشأن هذا العمل العدواني ضد دولة ذات سيادة. وهكذا فإن واشنطن تشجّع فعلياً حليفتها في الشرق الأوسط على توسيع منطقة العمليات العسكرية.
والتطورات المأساوية وغير المقبولة في الصراع العربي الإسرائيلي في لبنان واليمن والبحر الأحمر وخليج عدن والسودان وغيرها من «المناطق الساخنة» في أفريقيا، تعكس حقيقة لا جدال فيها: الأمن إما أن يكون متساوياً وغير قابل للتجزئة للجميع، أو لن يتوفر لأي أحد.
وقد ظلت روسيا لسنوات تحاول غرس فهم هذه الحقيقة، التي تبدو بدائية، في سياق الأمن الأوروبي في وعي واشنطن ولندن وبروكسل، الذين غمرتهم عقدة التفرّد والإفلات من العقاب. وكما تعلمون، وعد الغرب في البداية بعدم تمدّد “الناتو”، وفي عامي 1999 و2010 وقع في الوثائق الرسمية لمؤتمرات قمة منظمة الأمن والتعاون بأوروبا على الالتزام بعدم ضمان الأمن على حساب الآخرين. أما في واقع الأمر، يقوم حلف شمال الأطلسي بالتوسع الجيوسياسي والعسكري في أوروبا منذ ثلاثة عقود، في محاولة للحصول على موطأ قدم في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ما يخلق تهديدات مباشرة لأمن بلادنا. والآن يحدث الشيء نفسه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث بدأت البنية الأساسية لحلف “الناتو” في “الزحف” وحيث يجري إنشاء كتل عسكرية سياسية ضيقة لمواجهة الصين وروسيا، وهو ما من شأنه أن يقوّض البنية الأمنية الشاملة تحت رعاية رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”.
من ناحية أخرى، فإن الغرب لا يتذكر “التعاون العالمي” الذي يدعو إليه الأمين العام للأمم المتحدة فحسب، بل إنه يتهم روسيا والصين وبيلاروس وكوريا الشمالية وإيران علناً في وثائق عقيدته بقسوة بخلق تهديدات لهيمنته. وقد تم الإعلان عن هدف إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا، تقريباً كما خططت لندن وواشنطن في مايو 1945، عند تطويرهما للعملية “غير المعقولة» Operation Unthinkable لتدمير الاتحاد السوفياتي (وكان هذا حتى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية).

الحلقة الثانية غداً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى