مقالات وآراء

شهاب ملأ السماء نوراً

‬ فيوليت داغر

كشهاب مرّ وملأ سماءنا بوهج نوره. لم يعبر بعد… هو ما برح بيننا.. ما زلنا ننتظر إطلالة له. وعدنا بلقاء بالذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر. انتظرنا، نحن المكلومون دون عزاء، الموعد بلهفة وشوق.
عد الينا يا سيد، يا صاحب الحضور البهي الطاغي، يا من ننحني إجلالاً لهيبته وعظمته.. أمثالك لا يغيبون يا من ملأت الكون بضوئك، وشغلت الدنيا بسحر صوتك وجمالية كلماتك وبهاء حضورك وعظمة مواقفك وعظيم إنجازاتك.. يا من علّمتنا الشموخ في زمن الانهيارات والتردّي والذلّ، هل أنجزت المهمة فأبكرت الرحيل؟
أبتهل إليك يا ألله لا تفجعنا بخسارته.. وأنت يا يسوع صانع المعجزات، أنعم علينا بعودته والتوجه أمامنا، بعد تحقيق الانتصار كما وعدنا، إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة…
على الأشهاد أعلنها، ولن أبدّل.. إلا عند رؤية جثمانه الطاهر يُدفن في الأرض ويعود للتراب الذي منه أتى، وأشرق بنوره ردحاً من الزمن. لن أعزّي وأبارك باستشهاد سيد القوم… سماحة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله. بل أترك ذلك للغد الغني بمفاجآته.
هذا الموقف ليس من باب الإنكار، وهو الآلية النفسية للدفاع عن الذات التي تبرز عند حدوث صدمة لا يمكن تقبلها. إنما هو الشعور الخارج من العقل الباطن الذي يخالج المرء، في الجهة اليمنى من الدماغ، حيث مكمن الحاسة السادسة وما يتكوّن من مشاعر، يقصر العقل عن تصوّرها. هل مشينا في جنازته، وذرفنا الدموع الحارة في موكبه، وقدّمنا الشعائر التي تستحقها هذه النعمة الربانية التي اصطفانا الله بها دون غيرنا؟ هذه الأيقونة التي لا تعوّض خسارتها والتي لا تتكرّر، ربما اختفت لتظهر بعد النصر. فالحاجة ما زالت ماسّة لحضوره وإشعاعه، في خضمّ التحوّلات الكبرى في المنطقة والعالم. حيث لإسهاماته الفضل الأكبر في رسمها وتكريس جزء هام من مراحلها.
هذه ليست هلوسات ولهان. الدلائل على نجاة سيد القوم من الكارثة التي ألمّت بنا كثيرة. لست وحدي من يستدعيها. لقد خاطبنا في آخر إطلالة له بعبارة: «الخبر في ما ترون لا في ما تسمعون». كتب بخط يده، وهو الذي يحسب كلماته بدقة: «إلى اللقاء قريباً»، في حين لا يعلم الغيب إلا الله. هي رسائل مشفرة، وعلينا تبيان معانيها العميقة. كلّ يفسّرها كما يشاء. فالأيام والليالي بيننا.
وكالة «تسنيم» الإيرانية أكدت من جانبها أنه ونائبه أحياء في مكان آمن. العدو نفسه أعلن أنّ العملية لم تنجح، مشككاً بإنجازه، وهو الأشدّ ما يكون حرصاً للإعلان عن أيّ نصر في معركة وجودية كهذه، فكيف بالحري اغتيال نصرالله؟ لن أتطرق للجثة والتشييع وتعيين من يخلف وتأكيدات البعض التي تفضحها لغة الجسد وسواها من مؤشرات لا تقنع في حضرة هذا الزعيم التاريخي.
لكن لو صدّقت فعلاً فاجعة الخسارة، فسنعزي أنفسنا بأنها الأقدار ومشيئة الله، وبأنّ سيد القوم تمنّى على مسامعنا الشهادة، حيث ليس في الشهادة موت، بل عزة وحياة ومجد. وأنّ الشهادة في الفهم الإسلامي، حسب كلامه: سعادة وبشرى واصطفاء إلهي وفوز عظيم وانتصار حاسم لكلّ من ينالها. وبمطلق الأحوال، هذا الزعيم الحكيم، العظيم، الذكي، الخلوق، الشجاع، المحب، الحنون، صاحب الطهارة، الزاهد في الدنيا، سيبقى بعد رحيله حياً فينا. وروحه سترفرف فوقنا وترافقنا حتى النصر المؤزر الذي كرس حياته لبلوغه.
خلال هذه المحنة وهذا الامتحان العسير، سنحتاج لأكثر ما يكون من التآزر والتضامن والحسّ الوطني الذي يجمع ولا يفرق بين مكونات المجتمع، أو يشوّش على عمل المقاومة التي تتصدّى لمهمة التحرير. نحتاج لإعلام شريف ومسؤول، غير مهادن أو مستسلم أو متواطئ مع العدو. وللأسف بعض هذا الإعلام وهذه المنصات الاجتماعية لم تعد أكثر من أداة في يد الصهيونية، على حساب مصالح وطنها وشعبها. لقد بات التضليل الإعلامي أشدّ خبثاً وحضوراً بين جنباتنا. استراتيجياته للتغلغل والإبهار والإقناع والتأثير والتحوير بقراءة الأحداث الجارية لا تعدّ ولا تحصى. لكي الوعي ودسّ السمّ في العسل يلجأ لفلاتر. يقدّم الخبر عبر قالب من الإثارة والتشويق وتشويش الرؤية عند المتلقي. ينتقي الضيوف للتحليل والمواكبة بعناية، لتحويل الأنظار عن القضايا الأهمّ وعن العدو الحقيقي. لخلط الأوراق وقلب الحقائق وتمييع المؤامرة التي ترتكب بحق هذه الشعوب المقهورة والمستباحة. بحيث تصبح الخيانة وجهة نظر، والتطبيع مع العدو حسن إدارة، وتبنّي وجهة نظره مسألة فيها نظر تنسجم مع تطور الأحداث.
لقد نجحت المليارات التي صرفت لهذا الغرض في تدجين جموع من مجتمعات ودول تقاعست عن الخروج للساحات للاستنكار والضغط على الحكومات لتغيير اتجاهات سياساتها بما يتعلق بمصيرها وبمعركة التحرير. كما عملت على التشكيك ببعضها وبقضاياها وبحقوقها، ولم تقاوم بالوسائل المتاحة ما يُرسم لها هي نفسها. حتى بعدما شاهدت استباحة سواها أمام ناظريها بأبشع ما يكون من امتهان لكرامة البشر والتشنيع بأجسادهم وانتهاك حرماتهم وإنسانيتهم. لقد فضح طوفان الأقصى وكشف، لمن لم يكن قد أدرك بعد، طبيعة المشروع الصهيوني. أما سيد المقاومة، فاستشهد في معركة شريفة من المواجهة مع الفاشية التوراتية، وضد التوحش الصهيوني الفالت من عقاله الذي استفرد، منذ عقود طويلة ومريرة، بكلّ مكون على حدة في هذه الأرض التي باركها الله.
التبريكات لأرواح ملائكة استشهدت وضحت بالنفس لاسترداد الحقوق السليبة واسترجاع الكرامة المستباحة. هنيئاً لهم بين الأطهار في ملكوت السماء. وأسمى آيات العرفان لرجال الله في الميدان الذين يؤسّسون لشرق أوسط جديد، ويدفعون الدم عن البشرية جمعاء. نبارك لأبطال غزة وفلسطين بالذكرى الأولى للسابع من أكتوبر. هؤلاء الأحرار الذين سطروا الملاحم البطولية الإعجازية على مدار سنة من التصدي اليومي للعدوان. ننحني إجلالاً وإكباراً للشعب الصامد المضحي المحتضن لبطولات أبنائه رغم البلاء العظيم، من غزة والضفة إلى لبنان مروراً باليمن والعراق ووصولاً لسائر من فدى هذه الأرض على ساحات المحور المقاوم. بفضلهم جميعهم النصر قريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى