من كريات شمونة إلى حيفا والحبل على الجرار…
د. حسن أحمد حسن*
لم يعد التهويل بتوسيع الحرب وامتداد ألسنتها يخيف من تحمّلت أرواحهم كلّ النار واللهب المحرّم دولياً وإنسانياً وأخلاقياً، ولم يعُد تعميم شريعة الغاب والقتل المتعمّد والإبادة الجماعية تمنح القتلة المجرمين مزيداً من المزايا والمكتسبات بعد أن ثبت أنّ الدماء البريئة التي يستمتع القتلة بسفكها تفعل فعل مياه البحر بمستوطني صحارى التيه عبر الأجيال، فكلما شربوا المزيد منها ازدادوا عطشاً وتوحشاً في كلّ تفاصيل حياتهم اليومية القائمة سيرورة وصيرورة على البطش والفتك والإجرام والترويع، والأهمّ من هذا وذاك أنه لم يعُد الإعلان رسمياً عن مشاركة إدارة بايدن بحرب الإبادة الجماعيّة وإحراق ميثاق المنظمة الدولية ونثر بقاياه في ردهات المجمع الصناعيّ العسكري الأميركي يثير التوجّس من زيادة التبني الأميركي لإجرام تل أبيب بعد أن تأكد لكلّ ذي عقل أنّ كلّ ما جرى ويجري إنما هو أجندة أميركية يتمّ تنفيذها بأدوات مختلفة تمثّل حكومة نتنياهو أكثرها بشاعة. فالكيان المتفرعن أعجز وأجبن من أن يُكمل تنفيذ أيّ من جرائمه إلا بمظلة أميركية، ومشاركة مباشرة، بل وقيادة العمليات في المنعطفات الحادة، وجميع أطراف المقاومة على يقين أنّ ارتفاع نشاز صوت النتنياهو بالتهديد والوعيد يمثل استجابة تامة لدوزنة أوتار الغطرسة الأميركيّة المسكونة رعباً من فقدان السيطرة على العالم عبر البوابة الشرق أوسطيّة التي تتبلوَر بهوية مقاومة آمن حَمَلَتُها بحقّهم في الحياة بكرامة، وعملوا على بناء القدرات الذاتية الكفيلة بتمكينهم من الدفاع عن هذا الحق مهما بلغت التضحيات، وهذا يفسّر الاضطراب الأنكلو ساكسوني، ومسارعة الغرب الأطلسي بقضه وقضيضه لحماية كيان الاحتلال، والتكشير عن الأنياب، وتنفيذ حرب الإبادة بأبشع صورها ضدّ كلّ من يرفض الإذعان والعبوديّة لأولئك القتلة المجرمين، وعلى الرغم من ذلك كله لم تتضح معالم أي آمال قابلة للتحقق لدى معسكر الإجرام والمجازر، ويوماً بعد يوم تتبلوَر حقائق جديدة، وتتراكم قناعات موضوعيّة تؤكد أنّ سفينة المنطقة تسير بعكس اتجاه ما تريده الدولة العميقة، وأنّ الطفل المدلل سيبقى طفلاً يتنفس اصطناعياً لأنه يعاني من تشويه خلقي، وهيهات لمخلوق أن يفلح في تحدّي إرادة الخالق مهما امتلك من أدوات قتل وبطش وإبادة.
الأيام القليلة الماضية كانت متخمة بالأحداث والتطورات الغنية بالمعاني والدلالات التي لا يجوز إغفالها، ولا القفز فوق منتجاتها الأولية التي أكدت أنّ حزب الله نجح في امتصاص الصدمة على الرغم من هولها وشدّتها التي تفوق التصوّر والإمكانيات، واستطاع بكفاءة عالية أن يستوعب الضربات القاتلة التي تلقاها حتى بعد استشهاد أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه، وبزمن قياسيّ تيقّن المتابعون المهتمّون أنّ المقاومة استعادت توازنها، وانتقلت إلى مرحلة جديدة عنوانها الوفاء لنهج سيد شهداء المقاومة، وحمل دمائه الطاهرة والمضيّ قدماً لإبقاء الراية التي استشهد وهو يحملها مرفوعة ومصانة، وهذا يعني ترميم الخلل الذي سبّبته الضربات المؤلمة المتتالية، وانتظام أسس التواصل والفاعلية والأداء الميداني المتكامل بين مجموعة القيادة والسيطرة وبين المجموعات القتالية التنفيذية المنتشرة على امتداد خطوط المواجهة، ولعلّ البرهان الأبلغ على صحة هذا الاستنتاج نجاح حزب الله في استهداف معسكر «رغفيم» في منطقة بنيامينا جنوب مدينة حيفا المحتلة بعملية نوعيّة مركّبة ما تزال آثارها في طور التنامي والتدرّج في تظهير النتائج بشكل تصاعدي، ومن الضروري الإشارة هنا إلى عدد من الأفكار المتعلقة بما حدث، وما قد تحمله من دلالات وتداعيات، ومنها:
*استغلال الوضع المتشكّل بعد اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله وعدد من قادة الصف الأول لفرض «الصدمة والترويع» واستكمال متطلبات ذلك بنقل الجهد الرئيس لجيش الاحتلال الإسرائيلي باتجاه جبهة الشمال، والتبجّح بحتميّة القضاء على مقاومة حزب الله، وفرض شرق أوسط جديد وفق الرؤية الصهيو ــ أميركية، ومسارعة الإعلان عن بدء العملية البرية، واستحضار قوات جديدة لاقتحام الحدود والتوغّل في الداخل اللبناني بعد أن تجاوز قوام القوات المكلفة بتنفيذ المهمة خمس فرق عسكريّة، إضافة إلى عدد من الألوية وقوات النخبة في الجيش الإسرائيلي «لواء غولاني ــ لواء المظليين ـــ وحدة إيغوز إلخ…».
*فشل المحاولات المتكررة لبدء الاقتحام البري، وتكبيد القوات المهاجمة خسائر نوعيّة في الأرواح والمعدّات، فما أن تظهر مقدمة القوات المكلفة بالاقتحام والتوغل على امتداد الحافة الأمامية لخطوط التماس إلا وتكون نيران المقاومة بانتظارها، وقد تكرّرت عملية تدمير الدبابات بطواقمها وتعثر التقدم، والوقوع في جيوب قتل نجح المقاومون في جرّ القوات المهاجمة إليها في عدة مواقع، كما حدث في مارون الراس وغيرها، ولم تنفع سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها الجيش «الإسرائيلي» في إحراز أيّ تقدم يمكن تسويقه على أنه صورة من صور النصر الميداني المتدحرج، بل جاءت النتائج معاكسة للمطلوب، فعلى امتداد ثلاثة عشر يوماً بقي العنوان الأبرز لنتائج المواجهات اليومية يبرهن على صمود المقاومة وقدرتها على منع أيّ خرق «إسرائيلي».
*العمل على تغطية الإخفاق والفشل في التوغل البري بزيادة التوحّش في القصف الجوي والصاروخي والبحري لجميع القرى والبلدات التي تشكل البيئة الحاضنة للمقاومة لتحقيق هدفين أساسيين متكاملين:
1 ـ الضغط على البيئة الحاضنة ودفعها للتخلّي عن احتضان المقاومة، وتحميل قيادتها المسؤولية عن الأضرار والخسائر الجسيمة المترتبة على استخدام الطاقة التدميرية الإسرائيلية بحدودها القصوى.
2 ـ محاولة خلق شروخ وانقسامات حادة بين مكوّنات الداخل اللبناني المتعددة، بالتزامن مع حملة تصعيد إعلامي مسعور، وخلق واقع مضطرب جراء النزوح الكبير بسبب الإفراط في التدمير الشامل لدفع اللبنانيين إلى اقتتال داخلي يساعد الجيش الإسرائيلي في تحقيق غاياته الشريرة.
*ارتقاء غالبية المواقف اللبنانية الرسمية والشعبية إلى مستوى المسؤولية، وازدياد التفاف البيئة الحاضنة حول مقاومتها، وتكامل ذلك مع أداء ميداني شبه إعجازي للمقاومين الصامدين في مواجهة خمس فرق عسكرية إسرائيلية مجهّزة بكلّ ما يمكّنها من الاقتحام، لكنها عجزت عن فعل ذلك على الرغم من استمرار تكرار المحاولات وعلى أكثر من اتجاه، وهذا يؤكد أنّ المقاومة كانت تتحضّر لمثل هذه المواجهة منذ اليوم التالي لتوقف القتال في حرب تموز وآب 2006، وهو ما أشار إليه سابقاً سماحة الشهيد القائد حسن نصر الله أكثر من مرة في خطاباته وكلماته.
*قدرة المقاومة على استعادة زمام المبادرة، وخوض أشرس المعارك الدفاعية والهجومية بآن معاً وفق ظروف المعركة ومقتضيات الميدان، وقد تجلى ذلك بوضوح يوم الأحد 13/10/2024م. حيث نفذ المقاومون /38/ عملية في يوم واحد، ومن ضمنها استهداف مركز التدريب التابع للواء «غولاني» جنوب حيفا، وتكبيد العدو خسائر فادحة إلى درجة أرغمت رئيس الأركان هاليفي على الاعتراف بالحقيقة المرة عندما قال: «نحن في حالة حرب، والهجوم على قاعدة تدريب أمر خطير ونتائجه مؤلمة».
*دلالات نجاح المقاومة في استهداف مركز التأهيل والتدريب في جنوب حيفا لا تقتصر على قتل وإصابة العشرات، بل أكبر بكثير مما قد يخطر على الذهن، فوصول الطائرة المُسيّرة المستخدمة إلى العمق «الإسرائيلي»، وتخطّي كلّ منظومات الدفاع الجوي بعد أن تمّ رصدها بالقرب من مستوطنة نهاريا، وفشل الطائرات الحربية «الإسرائيلية» في إسقاطها، ثم اختفاؤها إلى أن وصلت إلى حيث أريدَ لها أن تصل، وأطلقت صاروخاً باتجاه الهدف ثم الانقضاض والانفجار في قلب القاعة، وهذا يعني نجاح رجال المقاومة في مشاغلة منظومات الدفاع الجوي بصلية من الصواريخ وإطلاق الطائرة المُسيّرة في التوقيت المحدد والمسار المدروس وكلّ ما يتعلق بهذا الأمر يبرهن على أنّ المقاومة الإسلامية تجاوزت تداعيات الضربات المؤلمة التي تلقتها، وانتقلت من واقع الامتصاص والاستيعاب إلى واقع الردّ والفاعلية والتصعيد المتدرّج والمتدحرج بمنهجية تأخذ بالحسبان كلّ الاحتمالات وتبني قرارها على السيناريو الأسوأ الذي يستطيع العدو اعتماده كقرار، والتعامل معه بكفاءة عالية تلزم أصحاب الرؤوس الحامية على تبريدها، أو تحمل تكلفة المكابرة والهروب إلى الأمام، ويبقى الميدان بيضة القبان.
*انتقال الجهد الرئيس العسكري للعدو إلى الجبهة اللبنانية وزيادة التوحش والعدوانية ضدّ الداخل اللبناني، وقد ردّت عليه المقاومة بتركيز الاستهدافات المتكررة لمدينة حيفا نظراً لأهميّتها الكبرى بوصفها البوابة البحرية الأهمّ للكيان، وفيها العديد من المنشآت المهمة والاستراتيجية، ومن بينها مصانع الأمونيا وغيرها من المنشآت الضخمة الخاصة بمصافي البترول وتخزين المواد البتروكيميائية والنفطية ومحطة توليد الكهرباء والعديد من المنشآت الكبرى الحيوية، وقد عرض الهدهد بشكل تفصيليّ في الحلقتين الأولى والثالثة كلّ تلك المنشآت وغيرها مما يؤلم الكيان كثيراً في حال تمّ استهدافه ما عرضه الهدهد، وهو أمر متوقع جراء التصعيد «الإسرائيلي» المتسارع بلا سقوف، ومن الطبيعيّ أن يقابَل بردود بلا سقوف أيضاً وفاء لما أشار إليه سماحة الشهيد القائد نصر الله رضوان الله عليه.
*المتابع لوسائل الإعلام «الإسرائيلية» لا يجد صعوبة قي تكوين صورة عن واقع حيفا اليوم وهي في طريقها لتكون مشابهة لكريات شمونة وبقية المستوطنات التي غدت مهجورة، وهذا يعني أنّ تمنيات نتنياهو بإعادة المستوطنين الفارّين من مغتصبات الشمال تبقى محض أوهام وأحلام إلا بشروط المقاومة، وبغير ذلك فأعداد المهجّرين تتضاعف، وقدرة الكيان على التحمّل والتعامل مع التداعيات تقلّ وتنخفض.
خلاصة:
رفع سقف التهديدات الإسرائيلية لن يغيّر من الواقع الميداني المتشكل، والحديث عن دخول واشنطن على الخطّ بشكل مباشر وتزويد الكيان بمنظومة «ثاد» للدفاع الجوي المخصص للتعامل مع الأهداف على ارتفاعات عالية يؤكد عجز الكيان عن حماية نفسه، والإخفاق المدوّي في التوغل البرّي في الجنوب اللبناني يعني أنّ ما ينتظره هو المزيد من الإخفاقات والفشل المركب والمتفاقم، وهذا يعني عقم التخويف بالعودة لفرض شرق أوسط جديد وموسع وفق المقياس الصهيو ـــ أميركي، وكأنهم يعيدون تدوير ما ثبت عقمه والعجز عن تنفيذه. فالكيان اليوم بعد مرور سنة ونيّف من انطلاق ملحمة طوفان الأقصى أضعف مما كان عليه عندما تحدثت كونداليزا رايس عن ذاك الشرق الأوسط المطلوب، والمقاومة اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه، وكذلك الداخل اللبناني أكثر تأييداً للمقاومة، والأمر ذاته ينسحب على الرأي العام العالمي بعد سقوط السردية «الإسرائيلية» داخلياً وإقليمياً ودولياً، وهذا يعني أنّ التهويل باشتعال المنطقة وإنْ كان احتمالاً ممكناً، إلا أنه في الوقت نفسه جزء من الحرب على الوعي، فليس اليوم كالأمس، ولن يكون الغد كاليوم، وما تستطيعه تل أبيب وواشنطن وتهدّدان به قد تمّ فعله عملياً، لكن ما لدى أطراف محور المقاومة ولمّا يُستخدم بعد كفيل بخلق شرق أوسط جديد أكثر أمناً واستقراراً، وخالياً من التهديدات التي لن تؤدي إلا إلى التسريع في انحسار ما تبقى من هيمنة أميركية واقتراب الكيان أكثر فأكثر من خراب الهيكل الثالث على رؤوس مَن فيه، وإن غداً لناظره قريب…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية