الصهيونية تعادي الساميّة على المكشوف!
علي حمدالله
قبل الولوج إلى متن المقال لا بدّ من تحديد تعريف مصطلح معاداة السامية بما يخدم غرض هذا المقال أي تحديده بحسب القاموس الصهيوني المصطنع، ولذلك نقتبس النص أدناه (مع بعض الاختصار والتصرّف) من الموقع الرسمي «للتحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود» وفيه:
«اعتمدت الهيئة العامة للتحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود في بوخارست عام 2015، التوصية المقدمة من طرف اللجنة المعنية بمعاداة السامية وإنكار المحرقة بخصوص اعتماد تعريف معاداة السامية العملي التالي: «معاداة السامية هي تصوّر معيّن إزاء اليهود ويمكن التعبير عنه بوصفه كراهية تجاه اليهود، وتوجيه المظاهر الخطابيّة والماديّة لمعاداة السامية نحو الأفراد اليهود وغير اليهود أو ممتلكاتهم أو كلاهما معاً، ونحو المؤسسات المجتمعيّة والمرافق الدينية اليهودية»، بما فيها استهداف «دولة إسرائيل» باعتبارها جماعة يهودية، واستند التعريف العملي على إعلان ستوكهولم والذي نص على أنّه «باستمرار شعور الذعر إزاء معاداة السامية وكره الأجانب، فإنّ مسؤولية رسمية تقع على عاتق المجتمع الدولي متمثّلة في مكافحة هذه الآثام». (انتهى الاقتباس).
وقد عملت الصهيونية العالمية تاريخياً على تضخيم أو فبركة ما يسمّى الهولوكوست أو محرقة اليهود والاستناد على التضخيم لفرض تعديلات مستمرّة على تعريف مصطلح «معاداة الساميّة» وصولاً إلى التعريف العملي الإجرائي الوارد في النص، وأرادت الصهيونية من ذلك:
*تجريم التشكيك بمحرقة اليهود وفرضها كمسلّمة غير قابلة للنقاش على مستوى العالم أجمع، واعتبار التشكيك فيها بأنّه خطيئة وآفة وإثم يشير إلى انحراف أخلاقي وضميري للمشككين، بحيث يُباح التشكيك بأيّ شيء مثل الله والأديان ونظريات العلوم وكروية الأرض ويحرّم التشكيك بمحرقة اليهود!
*تخليق عقدة ذنب مستمرة وبدون نهاية لدى المجتمع الدولي بشكل عام والأوروبيين على وجه الخصوص نتيجة افتراض مضخّم مرتبط بما يسمّى الهولوكوست.
*ربط الصهيونية العالمية ومشاريعها المتنوّعة بالساميّة، وبالتالي تجريم انتقادها.
ـ اعتبار الكيان الصهيوني كما تجسّد في «دولة إسرائيل» ومشاريعه التوسعيّة والاستيطانيّة جماعة يهودية وبالتالي اعتباره كياناً سامياً، والاستناد على هذا لتجريم انتقاد «إسرائيل» وحكوماتها ومستوطنيها، وتجريم أيّ سياسة تعادي المصالح والتوجهات الإسرائيلية».
ولا شك أنّ الولايات المتحدة وباقي المراكز الإمبريالية دعمت واستثمرت في كلّ الجهود الهادفة لربط ودمج وصَهر الثالوث المتكوّن من الصهيونية و”إسرائيل” والساميّة واعتبارها كلها أمراً واحداً لا يقبل التجزئة، في سبيل توفير الحماية والغطاء للمشروع الصهيوني باعتباره في الأساس مشروعاً وظيفياً إمبريالياً متقدماً في قلب الوطن العربي ومحيطه الإسلامي هدفه تعزيز وحماية المصالح الإمبريالية، هذه الحماية تتيح للكيان الصهيوني ممارسة أبشع الجرائم الوحشية والمجازر والإبادات الجماعية بعد تجريم معاداته أو حتّى مقاطعته وانتقاده.
ويغفل التعريف الصهيوني لمعاداة السامية أمرين جوهريين، الأوّل أنّ السامية مصطلح لا يقتصر فقط على اليهود، بل يمتدّ ليشمل الكثير من الشعوب والأمم والمجتمعات العربية وغير العربية التي تنحدر من أصل سام ابن النبي نوح، والثاني أنّ اليهودية ليست سلالة جينية أو عرق متصل تاريخياً بسلالة سام ابن نوح، بل دين دخل فيه أعراق مختلفة وخرج منه أعراق مختلفة عبر التاريخ منها ما هو سامي ومنها ما هو غير سامي، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميم مصطلح السامية ليشمل كل اليهود، وعليه فاستخدام مصطلح السامية ومعاداتها بالشكل الحالي لا يمتّ بأيّة صلة للعلم أو التاريخ، وهو مجرد فبركة مزعومة لتحقيق أهداف مغرضة.
ونقترح هنا أنّ الصهيونية باعتبارها مشروعاً إمبريالياً هي أكثر منظمّة معادية للسامية في التاريخ، وذلك لاعتبارات موثقة وعلمية مستندة إلى العديد من الدراسات المعتبرة الصادرة بلغات مختلفة، وفق التالي:
ـ اعتداء الصهيونية والإمبريالية على الشعوب الساميّة بما فيها العرب الساميون وغيرهم، اعتداء لم يقتصر على الإبادة والمجازر واستهداف الحرث والنسل ومصادرة الممتلكات والأراضي ونهب الخيرات والموارد وطرد السكّان من بيوتهم وبلادهم وتهجيرهم في أصقاع الأرض.
ـ قيام الصهيونية والإمبرياليّة بتنفيذ المجازر والترويع والإرهاب ضد اليهود الأوروبيين وغيرهم لأجل دفعهم للهروب من دولهم الأصلية وتوجههم للاستيطان في فلسطين وأراض عربيّة أخرى، وهو ما أثبتته العديد من الدراسات.
ـ قيام الصهيونيّة والإمبرياليّة بخلق وعي زائف لدى اليهود قوامه الكذب والتضليل والخداع يهدف إلى تشجيعهم إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين وأراض عربية أخرى عبر الادعاء بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، وأنّها ستكون أرض اللبن والعسل والأمن والأمان والاستقرار والازدهار لليهود المستوطنين فيها.
ـ عمل الأجهزة الإديولوجية الصهيونية في الكيان بما فيها رياض الأطفال والمدارس والجامعات والمعاهد ووسائل الإعلام المختلفة والمراكز الدينية والحاخامات على تنفيذ ممنهج ومستمر لعملية إعادة هندسة شاملة لوعي اليهود المستوطنين لغرض إنتاج وعي عنصري عنجهي ينظر للعرب والمسلمين باعتبارهم أقلّ من البشر وأدنى من اليهود، بل وينظر لكلّ من هو ليس يهودي نظرة دونيّة عنصريّة قوامها الاحتقار والاستخفاف.
ـ هذا أنتج أجيالاً من اليهود المستوطنين الكارهين لكلّ ما هو ليس يهودياً، أجيالاً معبّأة بالدموية والوحشية والتلذذ بالإبادة والقتل بما فيه قتل الأطفال الرضّع، أيّ أجيالاً خائفة ومذعورة من كلّ ما هو ليس يهودياً وتشعر بعداء العالم كلّه لها وليس فقط العرب والمسلمين، أجيالاً غير قادرة على الحياة الطبيعية بسبب أولاً: حجم الاعتداءات والنهب والسلب الذي مارسته الصهيونية باسم اليهودية، وثانياً: هذا الوعي المنغلق العنصري وغير القادر على التواصل الطبيعي مع الحضارات والثقافات المختلفة، والمنطوي على ذاته خلف مجموعة مركبّة من جدران العزل والفصل وأنظمة متعددة من الدفاع والأمن.
ـ لا نقول أنّ الجيل الأوّل من المستوطنين اليهود كان خالياً من هذا الوعي، بل نقول إنّ عملية إعادة هندسة الوعي بدأت سابقاً على الجيل الأوّل من المستوطنين اليهود واستمرّت إلى هذه اللحظة.
ـ دور الممارسات الصهيونية الدموية والإجراميّة في تعزيز موجات معاداة اليهود المستوطنين واليهود الصهاينة على مستوى العالم، وخاصّة بعد مشاهد الإبادة الجماعيّة في غزة، إذ تشير بعض الدراسات بما فيها دراسات أجرتها الجامعة العبرية بتمويل من منظمة الصهيونية العالمية، أنّ نسبة عالية من اليهود “الإسرائيليين” المقيمين في الخارج باتوا يخشون التجمّع والسير في جماعات في الأسواق العامة ويمتنعوا عن ارتداء أيّ من الرموز الدينية اليهودية كما يتجنّبوا الحديث باللغة العبرية في الأماكن العامة.
ـ عجز المشروع الصهيوني الحالي على توفير الأمن والأمان للمستوطنين اليهود، بل أنّ نهج القيادة الحاليّة ساهم في تقويض الأمن والأمان لهم.
ـ تبنّي الكيان لسياسات رسميّة لا تبالي بحياة المستوطنين اليهود مثل بروتوكول هانيبال ومثل السياسة المتبعة بخصوص الأسرى المستوطنين في غزّة والي يمكن وصفها بإنّها سياسة غض الطرف كليّاً.
كما أنّ الولايات المتحدة تدفع حالياً الكيان ومستوطنيه لخوض حرب بدون أفق سياسي ورغم إدراكها العميق أنّ انتصار الكيان في هذه الحرب مستحيل، ما يعني أنّ الولايات المتحدة تدفع بحياة مستوطني الكيان لمحرقة إقليمية كبيرة بدون أدنى مبالاة بحياة اليهود المستوطنين وكل ذلك على مذبح حماية المصالح الأميركية غير المشروعة في المنطقة.
وعليه نخلص بكلّ وضوح وبساطة إلى أنّ تلك الجهات والمنظمات والدول التي تتمسّك ليل نهار بشعارات معاداة السامية هي ذاتها الجهات والمنظمّات والدول الأكثر عداء للسامية استناداً لمعاداة السامية بحسب قاموسها الخاص، وأنّه لا يمكن حلّ مشكلة معاداة السامية كما تعرّفها الصهيونية إلّا بتفكيك الصهيونية نفسها، فقد وصل المشروع الصهيوني في تطوّره إلى اللحظة التاريخية التي بات فيها التناقض بين الصهيونية والسامية من جهة والصهيونية ومصلحة اليهود من الجهة الثانية تناقضاً تناحرياً غير قابل للحل إلّا بحل وفك وتخطّي الصهيونية نفسها، وأنّ التركيب التعسّفي المصطنع للثالوث المكوّن من اليهودية كدين والصهيونية كمنظمة إجراميّة والساميّة كعرق بات على وشك الانفجار ولا يوجد أي بوتقة أخرى قادرة على صهره حتى لو كانت حرباً إقليمية.