مقالات وآراء

وصية السنوار: استمروا بالمقاومة ولا تساوموا

‭‬ أحمد عويدات

عاهد وصدق ووفى، كان على موعدٍ مع الموت، لكن لم يترجّل مهندس الطوفان، بل حلّق عالياً نجم أكتوبر وقمره إلى المجد والعزة والإباء، امتطى صهوة الخلود وهو المشتبك من مسافة صفر مع أعدائه، ورحل شهيداً مقبلاً غير مدبر.
جاء أبا إبراهيم لاجئاً من مجدل عسقلان ومن عذابات المعاناة واللجوء. صنعته سنين الأسر الطويلة وتعذيب السّجان، جاء من صدى صراخ الأطفال الذين أُعدم آباؤهم أمام أعينهم، وبُقرت بطون أمهاتهم لقتل الأجنة في أرحامهن، ولأجل آهات الأمهات الثكلى اللواتي فقدن فلذات أكبادهن. رسمت سيرته نكبات شعبنا وسرقة تاريخ شعبنا وجغرافيته وجذوره. فجاء ردّه صادماً مزلزلاً قولاً وفعلاً مبشراً بمرحلة جديدة من الحرية وإنهاء الاحتلال. آلمته معاناة سبعة عشر عاماً من الحصار ومن التجويع والتعطيش والترويع. جاء رداً على تطبيع المطبّعين، وتجاهل المجتمع الدولي لقضية وحقوق شعبنا. كانت بوصلته فلسطين الأرض والشعب، وهذا ما جاء بوصيته: «أوصيكم بفلسطين بالأرض التي عشقتها حتى الموت، والحلم الذي حملته على كتفي كجبلٍ لا ينحني». كان إيمانه راسخاً بالمقاومة وكان يرى بها شرف وكرامة شعبنا.
كان رافضاً لكلّ الاتفاقات والتفاهمات مع الاحتلال ويرى فيها مساومةً على حقوقنا، فلم يقبل يوماً إلا بزوال الاحتلال، وتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، وعودة اللاجئين وإقامة الدولة وعاصمتها القدس. كان لا يؤمن إلا بالجهاد والكفاح المسلح سبيلاً وحيداً للانتصار. وقد أوصى المقاومين وكلّ الأحرار: «أن تظلّوا متمسكين بالبندقية بالكرامة التي لا تساوم».
كان متمسكاً بالوحدة الوطنية ووقف ضدّ الإنقسام، ودعا إلى إعادة بناء م.ت.ف على أسس واضحة سليمة يقبلها الإجماع الوطني وأقام جبهة عريضة من فصائل المقاومة بكلّ أطيافها، وغرفة عمليات مشتركة لمواجهة العدوان؛ وهذا ما شهدته معارك الطوفان. كان يتنقّل بين الخنادق والأنفاق، ودائم الحضور فوق الأرض وليس في باطنها. كان بين المقاومين يقاتل إلى جانبهم في محاور القتال والعقد القتالية وكان كثير التجوال بين عامة الناس ليطمئن عن أحوالهم برغم خطورة الأوضاع، يزرع الأمل بالنصر هنا وهناك، كان إنساناً بسيطاً متواضعاً كما وصفه شقيق زوجته، كان عنيداً صلباً متحدياً ومخاطباً العدو بشوارع غزة، لا يهاب الاغتيال لأنه يؤمن بالقدر، ولطالما قال إنّ دمه ليس أغلى من دم أصغر شهيد. كان يؤمن بالله وبالمقاومة وشعبه، والمشهد الأخير لاستشهاده يفند ادّعاء قادة الاحتلال بأنه يتخذ من الأسرى درعاً بشرياً له، بل إنّ الشعب والمقاومة هما الدرع الحقيقي له. ولطالما تحدث عن الشهادة والقدر فكان يتمنى أن يستشهد بقذيفة دبابة أو بصاروخ طائرة على أن يموت بجلطة دماغية. كثيراً ما ردّد «أنّ الموت في سبيل الله أسمى أمانينا».
كان حلمه أن يرى ويعيش إطلاق سراح رفاقه الأسرى لأنه عاش الأسر بكلّ معاناته لأكثر من ٢٣ عاماً، وأدرك معنى الحرية فهدف إلى كسر قضبان السجن والاعتقال وإطلاق نوارس الحرية. وما إصراره على انسحاب الغزاة منكسرين أذلّاء من أرض غزة العزة إلا ليحرّر أهلها من سجنهم الكبير وحصارهم الإجرامي.
كان يحيى السنوار كاتباً وروائياً ولم يكن «إرهابياً» بل مناضلاً من أجل الحرية ولعل «الشوك والقرنفل» شاهد على معانيه.
لا نبالغ أيضاً عندما نقول إنه جانب الثائر الأممي أرنستوتشي غيفارا في زهده ونضاله وسلوكه ولكن في نسخته الفلسطينية، فكان آخر من ينام وأول من يستيقظ وآخر من يأكل. إنّ يحيى السنوار إنتاجٌ محلي جماهيري صُنع في غزة، ولم يكن صنيعة الأنظمة وأجهزة مخابراتها. كان مستقلاً عروبياً وحدوياً منفتحاً على الجميع ودعا إلى توحيد طاقات الأمة، واستفاد من تجارب الشعوب ومدّ جسوراً مع أحرار العالم، ولم يعرف التطرّف إليه سبيلاً.
قد تتفق أو ربما تختلف معه، وشهد له الأعداء والخصوم قبل الأصدقاء، كان يضع الخلافات جانباً؛ لأنه كان يؤمن بأنها معركة الأمة كلها وإنْ تخاذل البعض. كان يرى وحدة الساحات وحدة للبنادق في مواجهة المشروع الصهيوني الأميركي الاستعماري، وأنه يهدّد الأمة كلها ومستقبلها وللسيطرة على مقدراتها وثرواتها. كانت تفرحه انتصارات ومواقف المقاومة في لبنان واليمن والعراق، ويرى فيها دعمها وإسنادها لغزة أنها تصبّ في هزيمة العدو المشترك.
بايعه إخوانه قائداً سياسياً وعسكرياً وهو تحت الحصار والنار لأنّ هذه المقاومة الصلبة تحتاج إلى قائدٍ كبيرٍ استثنائي يقودها نحو النصر ولأنّ رفاقه يعلمون أنّ العدو يخشاه فأرادوا أن يكون لهم نداً في مواجهتهم خاصةً عقب ما أذاقهم في عملية طوفان الأقصى التي أوْدت بكلّ منظومتهم الاستخبارية والأمنية والعسكرية، ووضعت فرقهم العسكرية بوضعٍ محرجٍ، وفرضت على قادة الكيان معركةً قالوا أنها «وجودية» وذلك لدقة التدريب والتخطيط والتنفيذ لرجال القسام واخوانهم بالفصائل الأخرى؛ فكان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول صفحةً مشرقةً في تاريخ نضال الشعوب، وصفعةً تاريخية صادمة لقادة الاحتلال لن تمحوها مجازرهم وانتصاراتهم الوهمية ونشوتهم الباهتة.
برع في الكلمة والأدب كما برع في حمل السلاح والسياسة، فكان القائد الأديب السياسي والعسكري المغوار المحنّك، كما كان «ثعلباً» في المواجهة مع الصهاينة، وفي استشهاده أيضاً؛ فقد حرم نتنياهو وقادته الأمنيين من فرصة اغتياله، أو النيل منه بعمليةٍ استخبارية امنية، وأضاع عليهم بهجة الانتصار، فكانت رصاصاته وقنابله ضدّهم وفي مواجهتهم هي آخر معاركه تسجله قائداً مشتبكاً من مسافة صفر، ثم شهيداً مقبلاً غير مدبر وصورته تغني للأجيال «أبو إبراهيم ودّع عزّ الدينِ، دمه عربي، دمه فلسطيني»…
رحل معه غبار معركته الأخيرة وجراحه التي أمسكت بندقيته وبقيَ رأسه شامخاً فوق الأرض هناك في تل السلطان الذي سيُسمّى يوماً بعد الانتصار بتل أبي إبراهيم يحيى السنوار.
ستذكره رمال غزة وأنفاقها، وستخلده كمائنها وعملياتها النوعية، وسيلعب أطفال غزة في حواري وشوارع تحمل اسمه في خان يونس ورفح ودير البلح.
هذا القائد الأيقونة هو من جعل من الذَّرِّ عاصفة مجلجلة تقتلع الاحتلال وطوفان يجرف بنيان الكيان وعصاباته عندما سُئل من قبل مؤسس حركة حماس الشهيد أحمد ياسين «بما ستقاوم؟»
كان مقاوماً حتى الرمق الأخير بجسده المثخن بالجراح بعد طول اشتباك وبذراعٍ مبتورة حاول إسقاط طائرة «الدرون» بعصا. رحل القائد الفارس لكنه أبقى لنا مشهداً يحمل لنا إرادةً لا تُفلُّ، وتصميماً صلداً وأنموذجاً استثنائياً، يُحتذى به للمضيّ في البدايات حتى نصل إلى النهايات المنشودة بالعودة والتحرير.
ستبقى وصيتك قسماً وعهداً وبرنامج عمل يهدّد وجود كيان الصهاينة ومصالح داعميهم وشركائهم.
طوبى لك الشهادة أيها القائد المقاتل.. طوبى لك وقد أصبحت عصاك مضرب مثل.. طوبى لك محبة الناس على امتداد العالم.. سيتوقف قرّاء التاريخ مطولاً في صفحات ما أحدثته، وسنرى يوماً ما أكاديمية استثنائية للعلوم العسكرية والصمود والثبات اسمها يحيى السنوار.

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى