تحرّك الدبلوماسية الأميركية مرهون بخدمة مصالح تل أبيب
د. حسن أحمد حسن*
التاريخ القذر للدبلوماسية الأميركية يفرض على كلّ مَن يحاول فهم ما يجري من تطورات وأحداث وتداعيات في أي منطقة من العالم أن يشكك بالنيات الأميركية التي يتمّ الإعلان عنها، وأن يضع بالحسبان أنّ ثمة أهدافاً أميركية خبيثة تتوارى خلف أي رواية يتمّ تسويقها في إطار جهود الخارجية الأميركية التي تدسّ أنفها النتن في كل بؤر التوتر المنتشرة في العالم على امتداد جغرافيته، والمتابع لحركة المبعوثين الأميركيين والزيارات التي يقوم بها مسؤولو وزارة الخارجية تشير إلى أن الأوضاع تسير بعكس ما يشتهي مطبخ السياسة الأميركية، بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض سواء أكان ديمقراطياً أم جمهورياً، إلى درجة غدا من المسلّم به لدى غالبية الباحثين والمفكرين والمهتمّين بقضايا الحروب والصراعات المسلحة على الصعيدين الإقليمي والدولي أنّ تكثيف الجولات المكوكية للمسؤولين الأميركيين محكوم دوماً بأحد أمرين:
1 ـ إحراز تقدّم ميداني ولو كان جزئياً، والعمل على تضخيمه والاستثمار فيه إلى أقصى درجة ممكنة، كما كان شأن هنري كيسنجر بعد تداعيات ما عُرف بثغرة الدفرسوار في حرب تشرين التحريرية، حيث استطاع بدهائه إخراج مصر من حمأة الحرب وتحويل الجهد الرئيس للأعمال القتالية إلى الجبهة السورية، الأمر الذي أدّى إلى تآكل الكثير من الإنجازات النوعيّة التي كانت قاب قوسين أو أدنى، كما أنّ ذلك قد مهّد لخروج مصر السادات من ساحة الصراع العربي الصهيوني كلياً بموجب اتفاقيات كامب ديفيد وما سبقها وتلاها. وكذلك الأمر بعد احتلال العراق أتى كولن باول إلى دمشق مع لائحة الطلبات التعجيزية التي لا يمكن أن يُفهم منها إلا أنها دعوة للإذعان المجاني، وهذا ما رفضته سورية.
2 ـ تعثّر حلفاء واشنطن وأتباعها، واتجاه بوصلة النتائج الختامية المحتملة للأعمال القتالية الدائرة في هذه المنطقة أو تلك بعكس ما تشتهي واشنطن، وهذا ما حدث في الأيام الأخيرة من حرب تموز وآب عام 2006م. ولذلك سارعت واشنطن لتغيير النتيجة النهائية، وتسويق صورة خادعة لانتصار «إسرائيل»، لكن العجز عن التطبيق الكيفي للقرار 1701 وفق أهواء الإدارة الأميركية، وكفاءة حزب الله في التعامل الجدي والمسؤول لتحصين ما أنجزته المقاومة اللبنانية البطلة بتضحيات مقاتليها وصمود بيئتها الحاضنة حرَم واشنطن من تحقيق ذاك الهدف الخبيث. وما يجري اليوم هو استنساخ لتلك التجربة، مع الاستفادة من التلويح بالإجرام الإسرائيلي الذي حطّم كل ما هو معروف عن التوحّش والقتل والإجرام والإبادة في تاريخ البشريّة على امتداده الطويل.
لا شك في أنّ تكثيف جولات المسؤولين الأميركيين في هذه الأيام يحمل في طياته العديد من الأهداف والغايات التي لا يمكن لإدارة بايدن الإشارة إليها لا تصريحاً ولا تلميحاً. وهذا لا يُخفي التخوّف من إمكانية انهيار الداخل الإسرائيلي مع ارتفاع عداد الخسائر البشرية والاقتصادية والدبلوماسية والمجتمعية، فمع تطاول مدة هذا الواقع قد تتآكل آثار القتل الجماعيّ والتدمير والقصف الوحشيّ الذي مارسته حكومة نتنياهو على امتداد أكثر من عام في غزة ولبنان، وقد يتحوّل عداد القتلى في صفوف جيش الاحتلال إلى معول هدم يزيد من حدة حالة الاضطراب والقلق والتوتر المتفشية في الداخل الإسرائيلي، وهو يرى نفسه يسير بقدميه إلى مستقبل مجهول يهرب إليه نتنياهو بدلاً من الاعتراف بالمسؤولية المباشرة عن الصفعات المؤلمة التي تلقتها تل أبيب منذ الإعلان عن ملحمة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، وكي لا يُستنفر أصحاب الخطاب الانهزامي والمستمتعون بجلد الذات واجترار ثقافة الإحباط واليأس والتهويل من قدرات الأعداء التي لا يستهين بها عاقل يمكن التوقف عند بعض الأفكار العامة المتعلقة بالحرب الدائرة، وهي حرب أميركيّة أسندت مهمة تنفيذها للجيش الإسرائيلي، وليس العكس، وباختصار شديد يمكن الإشارة إلى ما يلي:
•تضمّنت نتائج الدراسة التي أجراها معهد «واتسون» لدى جامعة «براون» الأميركية أن التمويل الأميركي لـ «إسرائيل» خلال الحرب الحالية التي تشنّها على قطاع غزة ولبنان بلغ أكثر من 22 ملياراً و700 مليون دولار، أيّ أنّ ما يعادل 70% من نفقات الحرب هو بتمويل من الخزانة الأميركية، وتأمين 30% المتبقية ليس بالأمر العسير على «أحبّاء إسرائيل». وهذا يعني أنّ ما يتمّ تسويقه على أنه ورقة قوة إسرائيلية بما في ذلك التوحش في القصف والتدمير وإبادة كل مظاهر الحياة هو بقوة خارجيّة، وليس بقوة إسرائيلية ذاتية، وهذه مقدمة تصلح ليُبْنَى عليها الكثير.
•اعترفت وزارة الأمن الإسرائيلية بمقتل 890 من جنود «الجيش» وضباطه والشرطة والأجهزة الأمنية منذ 7/10/2023م. وأكد موقع «srugim» الإسرائيلي بأنّ «8504 جرحى أضيفوا إلى شعبة إعادة التأهيل في وزارة الأمن منذ ذلك التاريخ، بإضافة تبلغ نحو 1550 جريحاً شهرياً، وهذا يمثّل زيادة بنسبة 150%»، في حين قال رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان: إنّ لديهم ما يقارب 11 ألف جريح، أما اللواء احتياط في «جيش» الاحتلال الإسرائيلي إسرائيل زيف، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك مؤكداً (إنّه من الآن وصاعداً ليس هناك «إنجازات» بل يوجد تآكل وحرب استنزاف لـ»إسرائيل»). وأضاف أنّ «إسرائيل تخسر دائماً في مثل هذه الحروب أكثر من العدو»، معتبراً أنّ حزب الله تعافى والوضع لديه أصبح طبيعياً، وإلى هذا المعنى نفسه أشارت الخبيرةُ والمحللةُ الصهيونيةُ شارون كيدون، المصدومةُ بحسَبِ تعبيرِها من حجمِ الخسائرِ اليومية وأضافت: «في لبنانَ دائماً أنتَ تعرفُ كيف تدخلُ ولا تعرفُ كيف تخرج»، وهناك وفق الاعترافات الإسرائيلية ما يقارب خمسين جندياً يومياً، يخرجونَ من الخدمةِ بينَ قتيلٍ وجريح.
•إذا وضعنا النقاط السابقة على الطاولة، ووضعنا إلى جانبها خرائط نتنياهو التي تبجّح بعرضها في الأمم المتحدة مقسّماً المنطقة بين دول خير وبركة، ودول شر وإرهاب، مع تأكيد الإصرار على إعادة إحياء مشروع الشرق الأوسط الجديد الموسّع الذي بشرت به كونداليزا رايس على نزف دماء أطفال لبنان في حرب تموز وآب 2006، والسؤال المشروع هنا: ما هي الخيارات الأخرى التي تضمن الحدّ الأدنى من البقاء لكل من لا يذعن للمشيئة الصهيو ـــ أميركية؟ وكي لا يتعب أصحاب نظرية تحميل أطراف محور المقاومة المسؤولية نذكرهم بتصريحات سموتريتش الأخيرة التي أكد فيها توسيع جغرافية دولته اليهودية لتمتدّ إلى أبعد مما ذكر عن المساحة بين الفرات والنيل، وهذا يتقاطع مع دعوة المرشح للرئاسة الأميركية دونالد ترامب إلى اهتمامه بتوسيع مساحة الكيان الصهيوني السرطاني.
•من جهة أخرى مقابلة يحقّ لأيّ من أنصار نهج المقاومة أن يتساءل: ما هي الضرورات الأمنية، التي تلزم حكومة العدو الإسرائيلي بنقل مكان عقد الجلسة الأسبوعية للحكومة الإسرائيلية من المكان المعتاد في مكتب «نتنياهو» بالقدس إلى مكان آخر مجهول ومحصّن؟ وهل مثل قرار كهذا يدلّ على استعادة قدرة الردع وتناميها كما يدّعي نتنياهو، أم العكس؟
*تحكيم العقل والمنطق يفرض في هذا السياق الإشارة إلى البيانات التي تُصدرها العلاقات الإعلامية في حزب الله التي أكدت أنّ حصيلة خسائر العدوّ قد بلغت منذ بدء ما أسماه العدوّ «المناورة البريّة في جنوب لبنان» ما يزيد عن 90 قتيلاً وأكثر من 750 جريحاً من ضباط جيش العدوّ الإسرائيلي وجنوده. بالإضافة إلى تدمير 38 دبابة ميركافا، و4 جرّافات عسكريّة، وآلية هامر وآلية مُدرّعة وناقلة جند، وإسقاط 3 مُسيّرات من طراز «هرمز 450» وواحدة من طراز «هرمز 900»، وهذه الحصيلة لا تتضمّن خسائر العدوّ الإسرائيلي في القواعد والمواقع والثكنات العسكريّة والمستوطنات والمدن المُحتلّة، أيّ أنّ الألم والوجع والخسائر ليست في طرف واحد، بل على الطرفين مع وجود فرق جوهريّ يتلخص في العتبة العالية لتحمّل الوجع لدى المقاومة، والعتبة المتدنية لدى الكيان المؤقت بجميع مكناته.
•يتمّ التركيز في الخطاب الأميركي والإسرائيلي وما يسير في فلكهما على تسويق صورة وهميّة عن نجاح العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران، وتحقيق الأهداف المعتمَدة أصولاً، مع التجاهل المتعمّد للردّ الإيراني المحتمل في أيّ وقت، وقد احتفظت طهران لنفسها به، وتصريحات جميع القادة الإيرانيين من أعلى مستوى إلى بقية المفاصل ذات الشأن تؤكد بأنّ الردّ آتٍ وأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستفهم الكيان المؤقت «قوة الشعب الإيراني وقدراته وابتكاره وإرادته» وتجاهل هذا الأمر جزء من الحرب على الوعي لتعميم اليأس والإحباط وتثبيت صورة مختلقة لنصر وهميّ لا وجود له، ولا قرائن على إمكانيّة بلوغه.
•استناداً إلى كل ما سبق يمكن القول: إنّ زيارة المسؤولين الأميركيين والحديث عن مبادرات وتقدّم في طريق وقف إطلاق النار ليس أكثر من ذرّ للرماد في العيون، وحتى لو حدث وتمّ التوصل إلى وقف مؤقت لعدة أيام فالهدف طَمْرُ ما يعانيه الداخل الإسرائيلي، وتسويق أنه انتصر، وبالتالي على الأطراف الأخرى التسليم بهزيمتها، وما الإصرار على إدخال تعديلات على القرار 1701، والعودة لإحياء جثة القرار 1559 إلا محاولة مفضوحة لفرض هزيمة استباقية على المقاومة التي تؤكد وقائع الميدان أنها في طريقها إلى النصر، وأنّ المسألة ينطبق عليها القول: «وما النصر إلا صبر ساعة»، وهذا لا يعني قطّ غضّ الطرف عن حجم الخسائر الكارثية البشرية والبنيوية التي تلحق بالمقاومة ومحبيها، فحكومة نتنياهو حجزت لنفسها مكان الصدارة في القتل والمجازر والإبادة الجماعيّة والتهجير القسريّ على المستوى العالمي، وهنا بيت القصيد، فأيّ تخفيض للسقف الذي حدّدته قيادة المقاومة في لبنان وغزة مهما كانت الضغوط سيشكل حافزاً للأميركي للإمعان أكثر فأكثر في وقاحته ودعمه تل أبيب، وإنْ تطلب الأمر الإعلان الصريح على أنه شريك في هذه الحرب والقائد الأعلى لكل مجرياتها وفصولها وميادينها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والمجتمعية.