نجلاء أبو جهجه عين الوطن التي رفضت الاستخفاف بالموت.. حملت أوراقها وعدستها وغفت على مشارف الزمن بصمت مهيب
عبير حمدان
عام 1996 وثقت الزميلة نجلاء ابو جهجه احتضان «سحر» لعمّتها قبيل أن تفرد جناحيها ملاكاً نحو السماء، هناك كانت «إسعاف المنصوري» البداية نحو الدبلوماسية لوقف العدوان الصهيوني على لبنان، حينها لم يكن هناك عالم افتراضي وهاتف ذكي وإعلام المواطن، بل مراسلون احترفوا المواجهة والتصدي لينقلوا إلى العالم همجية العدوان الذي يتكرّر اليوم بوحشية وإجرام مضاعفين…
لعلّ عين نجلاء أبو جهجه تعبت من حجم الدمار وهول المجازر المتنقلة جنوباً وبقاعاً وفي ضاحية بيروت لتغفو على مشارف الزمن حاملة معها وجع الوطن الذي يقاوم حتى تحقيق الانتصار الحتمي..
في زمن الحرب تحاصرنا أخبار الغياب ويعزينا أنّ روحنا هي التي تقاتل، وأنّ الأسماء التي شكلت فارقاً خلال مسيرة مهنية حافلة بالمواقف المبدئية والثبات على طريق المصداقية والحق لا يطويها الرحيل بل تبقى في الذاكرة والوجدان أنموذجا للأجيال…
في الذكرى التاسعة عشرة لمجزرة المنصوري فتحت أبو جهجه دفاترها وقلبها لـ «البناء»، وتكريماً لها وقد غادرتنا بالأمس نعيد نشر وقائع اللقاء كوثيقة على طريق النصر…
ملكت المقدرة على إختصار التاريخ بدائرة صغيرة، هي العين التي لا تغفو وكأنها الشاهدة الوحيدة على هول العدوان، وكيف لمن يوثق الحكاية أن يغيب؟ أن تبصر الحياة من رحم الدماء السائلة على الأسفلت هذه إرادة البقاء في أبهى تجلياتها وأن تكتب الخبر بحبر الدمع الخاشع لحظة تصعد روح صغيرة إلى ما فوق الغيم الملبد بدوي القنابل هذه بداية نصر.. نيسان 1996 كان الحقد يحمل أسم «عناقيد الغضب» لم تخشه نجلاء أبو جهجه فكانت الصوت والصورة التي أنقذت وطناً وهزت عروشاً. بين نجلاء وإسعاف المنصوري حكاية لا يمكن أن يطويها النسيان فالصدى يردد صوت إنفتاح العدسة لتحضن «حنين» الطفلة المتكئة على هامش الأمل بوطن خالية سماؤه من هدير الطائرات الحربية وتبقى وحدها سر البداية ودليلنا إلى النهاية كما يجب أن تكون. حينها خشعت المراسلة الحربية أمام لحظة إرتحال الروح إلى مكان بلا دخان وطائرات حربية، ورغم أن أرضنا خيرٌ من إلف جنة إلا أن «سحر» الطفلة التي نادت عمتها علّها تجد ركناً لجراحها تنشقت هواء الجنوب للمرة الأخيرة وتغلبت على أنين اللحظة، في تلك المساحة الضيقة من الزمن المجبول بالدماء تأملتها بصمت ولعلها حبست حريق المقل أمام قداسة الشهادة فأرخت آلة التصوير من يدها لتمنح أرواحهم الغضة السلام، أمام رهبة اللقاء مع ملائكة السماء تسقط كل الإعتبارات هذه هي أصول مهنة المتاعب كما يجب أن تكون وهذا الرقي الذي ميّز «المراسلة الحديدية» التي هزت ضمير العالم بكاميرا.
تسعة عشر عاماً مرت على جريمة عصر «سحر» و»حنين» كبرتا في ذاكرة نجلاء وإكراما لهما ولمن سبقهما ومن لحق بهما كان لا بد من لقاء يحثنا على القراءة.. ولن ننسى.
نفتح دفاتر الذاكرة عند مشارف المنصوري لنسأل نجلاء المراسلة الحربية عن إرتباط الإحساس البشري ببشاعة القتل عن سابق تصور وتصميم وهل يمكن إختصار الحدث ليصبح مجرد خبر صحفي لتعود بنا الى قريتها وما بين «حنين» الطفلة التي إسدلت رأسها من نافذة سيارة الإسعاف و»حانين» الملتجئة إلى مغارة تسكنها حكايا الجن هرباً من طوافات المحتل حكاية وطن تخبرنا إياها نجلاء وتقول :» حسب تجربتي أجزم أنه من الصعب إختصار المشهد بكلمات بسيطة، الإنسان إبن بيئته والواقع الذي يحيط به يساهم في تكوين شخصيته وخياراته، وكوني إبنة قرية عانت الكثير جراء الإحتلال والتهجير القسري والقتل اليومي حيث وعيت على هول المجازر الإسرائيلية وبشاعة هذا العدو الذي لم يوفر البشر والحجر كان من البديهي أن أبحث عن صفة تخولني نقل الصورة بواقعيتها إلى العالم فأصبحت المراسلة الحربية وفي داخلي تلك الطفلة التي تعلقت بعين الكاميرا حين زار فريق صحفي أجنبي قريتي وسألتنا المراسلة إذا ما كنا نخشى القصف والطائرات وأذكر حينها أننا أبينا الإعتراف بخوفنا وقلنا لها أننا لا نخاف وقد كذبنا، جميعنا كنا نخاف الحرب وكنا نلجأ إلى المغارة هرباً من القذائف رغم إننا كنا نخشى تلك المغارة وما يدور حولها من قصص عن الجن الذي يسكنها. أذكر أنها علقت الكاميرا في رقبتي وللحظة شعرت أني ملكت الدنيا وما فيها وحين عدت إلى المنزل لم أتمكن من النوم لكني أغضمت عيناي كي أرى نفسي صحافية».
وتضيف أبو جهجه في إطار متصل:» وجود الفدائيين في قريتي زاد من إصراري على إمتهان الصحافة رغم أني لم أتمكن من دراسة الإعلام في حينه فدخلت معهد العلوم الإجتماعية لإعتقادي أنه ذو صلة بالموضوع وفي الجامعة تابعت نشاطي في الحركة الطلابية وكذلك نشاطي المسرحي الذي منحني مساحة كبيرة للتعبير عن مشاعري وحقدي اتجاه العدو. ورغم أني نلت شهادة الليسانس في العلوم الإجتماعية وشهادة الجدارة في علم الإجتماع الإقتصادي إلا أني فضلت العمل في مجال الإعلام وبدأت في صوت الفرح ثم في «الراية» ولاحقاً إذاعة القرآن الكريم بعدها في جريدة اللواء وصولاً الى وكالة رويتر».
حدث لا يتكرر
وعن إشكالية تعاطي الإعلام الغربي مع واقع الصراع في المنطقة ونظرته إلى الكيان الإسرائيلي وكيف لوكالة أجنبية أن تقبل بالاعتراف بحقيقة مجزرة إسعاف المنصوري تقول أبو جهجه:» رويتر تعاطت مع الحدث بإطار تسويقي، حيث قال لي مدير الوكالة في بيروت أن هذا الحدث لا يتكرر إلا كل مئة سنة، ولذلك كان لا بد أن يتم إستثماره بشكل تجاري ومعنوي من وجهة نظرهم وحسب المعلومات التي وصلتني في حينه أن إيران دفعت مبلغاً هائلاً للوكالة كي تكون السباقة في عرضه ولاحقاً تم تسويقه على باقي الدول. تم عرض شريط المجزرة في جميع أنحاء العالم وأمتنعت إسرائيل وحدها عن بثه وقد برر معلق الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي الأمر بالقول أنهم يريدون تجنيب مشاهديهم رؤية مشاهد فظيعة، أما في في أميركا فقد طلبت وزارة الإعلام الأميركية من جميع وسائل الإعلام الرسمية والخاصة عندها أن لا يتم عرض شريط المجزرة لأكثر من خمس مرات يومياً وبعد الساعة الثامنة مساء بحيث يكون الأطفال نياماً وكانت هذه المرة الثانية التي تتدخل فيها وزارة الإعلام في شؤون حرية الوسائل الإعلامية حيث أن المرة الأولى كانت أبان مجزرة صبرا وشاتيلا».
وتضيف ابو جهجه في إطار متصل:» الوكالات الأجنبية ترى أن الصورة المتحركة للحدث هي الأقوى تأثيراً على المشاهد لذلك هزت مجزرة إسعاف المنصوري العالم كوني نقلت صورة حية ما قبل إنطلاق الصاروخ ولحظة إطلاقه وما بعد الإطلاق وكانت وجوه الضحايا شاهدة على فظاعة الحدث وأنا هنا لا أنفي فظاعة مجزرة قانا التي حفرت عميقاً في وجداننا ولكن من الناحية المهنية الصورة المتحركة تؤثر بشكل أكبر، قانا خرجت الى العالم على هيئة أشلاء بعدد مخيف ولكن عين الكاميرا لم ترصد المجرم بشكل مباشر».
ونعود إلى آوان المجزرة لتخبرنا المراسلة الحربية عن تفاصيلها:»في ذلك اليوم كنت قد أرسلت المادة للوكالة منذ الصباح وطلبوا مني إن لا أخاطر بالتقدم إلى القرى المستهدفة أكثر حيث أن المادة التي وصلتهم كافية، ولكني أردت أن أصور سيارة الإسعاف التي تنقل الناس يومياً في مكان مكشوف وممنوع فيه التحرك فكل شيء متحرك يكون هدفاً للعدو، كانت الساعة الواحدة والدقيقة الأربعين تقريباً عندما سمعت بوق سيارة إسعاف تقترب صوّرتها وأعتقدت أنها تُقل جرحى، عندما أقترب أكثر شاهدتها مكتظة بالأطفال والنساء. أعطى سائق سيارة الإسعاف إشارة تحذير من يده لسائق سيارة مرسيدس بيضاء آتية من صور نحو «المنصوري» كي يعود ادراجه نتيجة خطورة الوضع ثم تحدث السائقان معاً للحظات فوافق سائق المرسيدس أن يعود من حيث أتى، كنت خلال ذلك قد أوقفت التصوير، وقمت على عجل بتغيير إتجاه سيارتي بحيث أصبحت سيارة الإسعاف أمامي، للحظة فكرت أن أعود أدراجي لكني عدت وقررت البقاء رغبة مني في رصد تلك المروحيات القريبة، نزلت من سيارتي ورحت أصور المكان لإقتناص مشهد للحاجز الدولي الخالي من عناصره وبدأت الطائرات المروحية تقترب بسرعة فرحت أرصدها وقد بدت لي من خلال حركة طيرانها إنها في مرحلة الإنقضاض على هدف ما قريب، لكني لم أتصور أبداً أن هدفها سيكون قريباً إلى هذا الحد. اختبأت بجانب حائط ورحت أصورها وفجأة أطلقت صاروخاً ليسقط على مسافة عشرين متراً مني فأنفجر في وسط الشارع وأحدث كتلة هائلة من اللهب ونتيجة كثافة الدخان لم ألحظ بأن سيارة الإسعاف قد اصيبت ورحت أشاهد سيارة المرسيدس وقد خرج من فيها أحياء فيما أختفت سيارة الإسعاف عن الأنظار. ثم أطلقت المروحيات صاروخاً أخر بإتجاه المكان لكنه لم ينفجر وفيما كنت أجهز آلة التصوير بفيلم جديد تحسباً لصواريخ أخرى محتملة رحت أشكر ربي على سلامة سيارة الإسعاف لإعتقادي أنها ابتعدت بسلام. بقيت المروحيات تحلق في المكان وفجأة شاهدت رجلاً يخرج من البستان بإتجاهي حاملاً بين يديه طفلين أحدهما رضيع، وفتاة أخرى تركض إلى جانبه، ما لبث أن أنضم إليهم رجل آخر أمسك بيد الفتاة، كان الرجل يصرخ «ولادي الربعة ماتوا» .. « أربع أولاد يا عالم» هذا الرجل كان عباس جحا وكانت الفتاة الأخرى تصرخ بأعلى صوتها «أختي أنفجر رأسها» « يا ويلي بدي أختي»، إنها منار الخالد ظننتهم من المنازل القريبة لم أستوعب الأمر إلى أن صرخ الرجل مجدداً «ولادي ماتوا يا عالم خمسة عشر طفلاً وإمرأة احترقوا في سيارة الإسعاف» وأشار بيده باتجاه البستان فركضت حيث أشار وقفزت من مكان مرتفع كي اسلك طريقاً جانبياً بين اشجار الليمون كي لا أكون هدفاً مكشوفاً للطائرات. عندما أقتربت بدأت أسمع أصوات الضحايا تخبرني بالفاجعة كانت السيارة قد استقرت بعد قذفها داخل غرفة صغيرة وبدا الأمر كأنه قبر جماعي لركابها رحت ابحث عن باب الغرفة للدخول لكني لم أستطع الدخول لأن السيارة كانت ملتصقة بالجدار لجهة الباب، من خلال هذا الباب رحت أصور تفاصيل المجزرة علني أخبِّىء هوؤلاء الأطفال داخل عدسات آلات التصوير لقد كنت في تلك اللحظة الشاهدة والشهيدة في آن معاً، كنت أشبههم تماماً، لا فرق أنا مثلهم وهم مثلي. هذه «حنين» برأسها المتدلي من زجاج نافذة الإسعاف وقد أختلط دمها مع كلمة «إسعاف» المطبوعة باللون الأحمر بدت أبنة السنوات الخمس وكأنها تغفو على نافذة السيارة التي باتت مقصلة لزنابقها إلى جانبها إمرأة في عقدها الثالث ماتت وهي فاتحة عينيها لقد كانت «منى» والدة مريم وحنين ومهدي وزوجة عباس جحا والى جانبها سيدة في العقد الخامس قد كشفت الشظايا منديلها فبان شعرها الأشيب وقد حنته الدماء إنها «نوخة العقلة» وقد سكن أحضان الشهيدتين ثلاث فتيات صغيرات رحن ينازعن سكرات الموت على عجل، وإحداهن تنادي بصوت مخنوق «يا عمتي.. يا عمتي» وتتحسس جثة جدتها «نوخة» لاعتقادها بأنها عمتها إنها «سحر» شقيقة منار. طفلة أخرى وضعت يديها فوق ركبيتها والدماء تغطي وجهها بالكامل بقيت جالسة في مكانها كأنها ترفض السقوط وبان لي أن عينيها قد فقئت ربما كانت تحاول أن تفهم ما الذي حصل وتلتفت ناحية الصوت المنادي «يا عمتي» وعند أقدام «منى» طفلة تقوقعت على جراحها وماتت وهي تحضن أطراف ثوب أزرق لم يكن أمامها إلا الثوب كي تخبىء رأسها فيه..كل ما أصفه مر بلحظات قليلة بكيت دون دموع لقد تنكرت لي الدموع، أكتفيت ببضع لقطات اقتنصتها لتكون الدليل وعندما لفظت الطفلة «حنين» أنفاسها الأخيرة أمامي نكست آلات التصوير أما رهبة موت الأطفال».
لكن أين كانت عناصر القوات الدولية في هذه الأثناء تقول أبو جهجه:» توجهت بإتجاه قوات الطوارىء الدولية طالبة منهم إسعاف من تبقى من جرحى لكنهم لم يحركوا ساكناً، حاولت الإتصال بالصليب الأحمر وبثكنة الجيش في صور لكني لم أوفق ثم أتصلت للمرة الثالثة بوكالة رويتر التي أشارت لاحقاً في تقريرها أن القوات الدولية تلكأت في مساعدة الضحايا، عدت إلى السيارة وفي داخلي حزن وغضب كبيرين ورأيت عباس جحا يندب أطفاله وزوجته وجيرانه، على مدى عشرين دقيقة كنت أركض بين السيارة وحاجز الطوارىء الدولية وكان جحا يحاول وشقيقه إنقاذ من فيه نفس أخير وإنتشال الشهداء ولم يتمكنا من ذلك إلى أن وصلت آلية لقوات الطوارىء وراحت عناصرها تنتشل الضحايا بعد أن قاموا بخلع الأبواب وتحطيمها، برأيي لو أنهم تحركوا بشكل أسرع لعلهم تمكنوا من إنقاذ أحد الأرواح لكنهم لم يكترثوا بجراحهم وأنينهم».
تؤكد أبو جهجه أنها في تلك اللحظات خلعت ثوب المراسلة وكانت المسعفة التي تعيش الفجيعة والمتعاطفة وفي داخلها بركان يوشك على الإنفجار لذلك نسألها عن الاستسهال الآني مع مشاهد القتل المتنقل اليوم من قِبل بعض وسائل الإعلام الساعية للتسويق وجذب المشاهد ولو على حساب الضحايا ومشاعر المتلقي فتجيب:» لا اريد أن أقسو على زملاء المهنة، ولكن اللحظة هي التي تتحكم بنا أحياناً وحسب المشهد تكون ردة الفعل، قد يكون إستسهال الموت حالة قائمة اليوم ربما لكثرة تراكم الجثث أو لأن الإعلام بات عالماً مفتوحاً للجميع حتى أن وسائل التواصل أصبحت وسيلة ترويج وفي متناول الجميع، لكل شخص قناعاته من جهتي خشعت أمام رهبة الموت وتعاطيت ضمن حدود مهنتي كمراسلة حربية واجبها نقل الصورة كما هي ولكن في المقابل شرف المهنة يحتم عليّ إحترام الضحايا لذلك أرفض أن تكون صورتي مادة ترويجية كحدث عادي وبديهي ومقبول ومتداول كمن يتابع فيلماً بهدف التسلية، أنا مراسلة أنقل الحقيقة ولست باحثة عن شهرة فارغة على حساب دماء الشهداء ومشاعر أحبتهم، لذلك أرفض منطق الاستخفاف بالموت كما نرى اليوم، هذه هي سلبيات التكنولوجيا التي باتت في متناول الجميع وللأسف إنسحب الأمر على وسائل الإعلام بشكل واضح».
أما ثمن الحقيقة فكان الإقصاء وعن ذلك تقول:» رويتر حققت الربح المادي والمعنوي من خلال تفردها بنقل الحدث الى العالم ولكن في المقابل كان للحقيقة ثمن دفعته أنا حيث حاولت الوكالة منعي من إجراء لقاءات تلفزيونية للحديث عن تفاصيل المجزرة كما حصلت ولكني لم أرضخ وكان ظهوري على شاشة «المنار» الحد الفاصل خاصة أني تحدثت عن المقاومة، وصلت إلى مرحلة كنت أدفع فيها للوكالة ثمن الصور التي التقطها إلى أن شعرت بأنهم يستعملون معي سياسة الإحراج كي أخرج بإرادتي ودون أن أنال حقوقي المعنوية والمادية منهم وبالفعل إخترت الخروج».
لاحقاً تعاونت أبو جهجه مع الاسوتيدش برس وواكبت أيام التحرير في آيار 2000 وحين تحقق الإنتصار بدأت إستراحة المحارب كونها لا تجد نفسها إلا في دائرة الإعلام الحربي.
بقلم نجلاء..
ما بين الطفلة «حنين» وقريتي «حانين» ثمة وطن يتشابه، وثمة حكاية وتطابق للزمن والأبجدية..
13 نيسان 1975 وقعت حادثة «اوتوبيس» عين الرمانة، ووقع الوطن معها، في حمام دم رهيب استمر لسنوات طوال.
وفي 13 نيسان 1996 في غسعاف المنصوري وقع حمام دمٍ آخر!! الأصابع واحدة لكن الفرق، أن المجزرة الأولى قد اضرمت الحرب في حين أن المجزرة الثانية قد ساهمت وبقوة في إيقافها!
رأس حنين أسدل من نافذة سيارة الإسعاف نهار سبت من نيسان العام 1996، وأسدل رأس قريتي حانين من خارطة الوطن نهار سبت من تشرين الأول العام 1976، وبين حانين وحنين أسدل الوطن أشلاءً ومكعبات وأسلاكاً شائكة، وشهداء وأرامل وايتاماً وأسرى ومعتقلين ومعوقين.. وإحتلالاً
بين طوافاتهم وعيوني ثمة وطن، خيط وخاتمة وألوان تدوي، ليس لعدستي كاتم للصوت..المشهد إنعكاس متداول الدلالات عبرية التطلعات السماء ستار، مسرح مقتول، ترجمان يهذي أرغب بقاموس عبري كي أعرف كم «حاخام» وقّع على أجنحة طوافاتهم، بأننا شعب مكتوم الطفولة والقيد والوطن!!
بين عدسة الذاكرة وعدسة التصوير تفوح الذكريات، بالألم، وحنين الأرض، فيض على الأشواك وانحناءات أشواق لحانين القرية (..) وفي البال ألف سؤال ودمعة.
وكي لا تذوب ذاكرتنا في «أسيد» النسيان، كان لا بد لي من نشر الكلمات والصور في أروقة العيون، للحفاظ على جينات قضايانا في أجساد تضج بالحركة والغضب.. ما نكتبه حصى نلقيها في بحيرة التاريخ المنسي، لربما تصحو المخيلات الراكدة، بفعل ارتطامها بحلقات الذاكرة.