التفاوض تحت النار وانقلاب السحر على الساحر
ناصر قنديل
– كانت رغبة بنيامين نتنياهو عندما صرّح أركان حربه برفض وقف إطلاق النار للتفاوض بعد ذلك على صيغة تنفيذ القرار 1701، دون تعديلات وإضافات، كما صرّح المسؤولون اللبنانيون، أن يستثمر النيران لتعديل وجهة التفاوض نحو الخروج من القرار 1701 وتعديل أحكامه بما يمنح الشرعية للمكاسب التي فرضها الاحتلال عبر تعطيل تنفيذ القرار، خصوصاً في مجال التحرّكات الجوية والبحرية على حساب السيادة اللبنانية والاحتفاظ بالأراضي اللبنانية التي تمثل مواقع استراتيجية مثل مزارع شبعا، انطلاقاً من أن هذه الامتيازات ضرورات لشن أيّ حرب مقبلة، وقد أخذته نشوة الشعور بالقوة إلى إضافة حرية التوغل البرّي، عند الشعور بأي تهديد، ولذلك كله قالت قيادة الكيان إن التفاوض سوف يجري تحت النار وليس بعد وقف إطلاق النار.
– منذ أن أطلقها قبل شهر، سادت نظريّة وزير الحرب المطرود يوآف غالانت عن التفاوض تحت النار في كل التعامل الإعلامي والسياسي والدبلوماسي بصفته أحاديّ الوجهة، وله معنى واحد وهو أن المقاومة سوف تتعرّض لتدمير قواها البشرية والمادية وأن لبنان سوف يتعرّض لتدمير بنيته السكانية وقتل سكانه حتى يتم الرضوخ للشروط الإسرائيلية. ووصل الأمر ببعض الكتّاب العرب والأجانب ومنهم لبنانيون مقيمون ومهاجرون، حد القول إن التريث اللبناني خطأ جسيم، وإن التمسك بالقرار 1701 خطأ أكبر، لأن الثمن سوف يكون فوق طاقة لبنان على الاحتمال. وفي نهاية المطاف سيكون الرضوخ للشروط الإسرائيلية جواز المرور الوحيد لوقف الحرب.
– خلال أيام ثم أسابيع بدأت الصورة تنقلب، وصار الحديث عن إنجازات الاحتلال في الحرب البريّة موضوع سخرية، وبدأ يظهر أن جيش الاحتلال عاجز عن السيطرة على أي قرية أو بلدة داخل الحدود اللبنانيّة، وأن الصواريخ عادت تنطلق من النقاط التي قال إنّه دخل إليها ودمّر فيها البنى التحتية للمقاومة، وصارت كلفة العمليّة البريّة تتضاعف بشرياً ومادياً، ثم تظهر عبثيتها، لجهة أن لا شيء يتغيّر في قدرة المقاومة، وأن لا قدرة لجيش الاحتلال على ادعاء السيطرة على أي قرية أو بلدة رغم التوغلات المتكرّرة التي تنتهي بالاضطرار للانسحاب تحت النيران. وبالتوازي ظهرت صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة سبباً لجعل الحياة لا تُطاق في عمق الكيان، حيث يمضي أربعة ملايين مستوطن أوقاتاً غير معلومة في الملاجئ وتحت القلق، وحيث حيفا بدأت تتحوّل الى كريات شمونة كما وعدت المقاومة، وحيث تل أبيب تحت نار الصواريخ والطائرات الموجّهة، وغرفة نوم رئيس الحكومة تتلقى نصيبها، ومثلها قيادة لواء جولاني، وحيث قيادات ومستودعات ومقار تدريب الفرق 36 و98 و146 تتلقى نصيباً وافراً أيضاً، ويتحقق نوع من توازن الألم والقلق مقابل نيران الاحتلال التي تدمّر العمران وتقتل الناس عشوائياً.
– خلال شهر من إطلاق غالانت لشعار التفاوض تحت النار، ثبت أن الموقف اللبناني لم يتغيّر، وبقي لبنان الدولة والمقاومة عند معادلة وقف إطلاق النار والقرار 1701، وبدأ خطاب الاحتلال يرتبك. واضطر نتنياهو أن يصحّح كلام وزير حربه الجديد عن استمرار الحرب حتى نزع سلاح حزب الله، ويقول إن الهدف هو إبعاد السلاح إلى ما وراء الليطاني كما يقول القرار 1701، لكن لبلوغ ذلك موجبات على الاحتلال تستدعي التخلّي عن وهم الاحتفاظ بالمكتسبات المفروضة بقوة تعطيل القرار، جواً وبحراً وبراً، بدلاً من المطالبة بتحويلها إلى نصوص في الاتفاق، وبينما لم تفلح النار في تغيير موقف لبنان، بدا أن النار بدأت تفعل فعلها في فرض التغيير على قادة كيان الاحتلال.
– الورقة الأميركية التي تسلّمها لبنان ليست بعد مشروعاً صالحاً بقياس مفهوم السيادة اللبنانية، وثمّة ما يحتاج الى الإلغاء منها وما ينقصه التوضيح، وما يحتاج الى تعديل، لكنها ليست ورقة الشروط الأولى لمرحلة وهم التفاوض تحت النار، وهي عملياً تعبير عن تراجعات فرضتها النار، ولأن التوصل الى الاتفاق النهائي لا يزال يحتاج وقتاً ومزيداً من التفاوض، فإن هذا التفاوض سوف يجري كما طلب الكيان، تحت النار، لكن نار التدمير والقتل لن تغير موقف لبنان، بينما سوف تتكفّل نيران المقاومة على جبهات الحرب البرية، ونحو عمق الكيان بإنضاج قادة الكيان والرأي العام فيه لقبول الشروط اللبنانية، والنزول عن شجرة الوهم نادمين على نظرية التفاوض تحت النار بعد أن انقلب السحر على الساحر.