تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.. من السرية إلى العلنية…
مسيرة رِجَال صَدَقُوا وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عن إيمانهم، وهو أمر لا يمكن لأحد إنكاره مهما تباينت معهم الاختلافات أو الخلافات
مؤمنون واثقون ثابتون… بهذه الأقانيم الثلاثة يضيء اليوم القوميون الاجتماعيون شمعة الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ الثالثة والتسعين مجدّدين العهد والوعد راسخين على إيمانهم بفجر النهضة القومية على هدي «صحة العقيدة وشدّة الإيمان وصلابة الإرادة ومضاء العزيمة»، رغم ظروف ووقع الأحوال القاسية على الأمة المترَعة بالصعاب وسط مجابهة عنيفة وصلبة في خضمّ صراع وجودي تواجهه أمّتنا اليوم في معركتها المصيريّة التي يخوضها طوفان الغضب الفلسطينيّ والساهرين على الزناد وعلى منصة الصواريخ جاعلين كلّ الكيان الغاصب تحت مرمى نيرانهم… غايتهم الانتصار واستعادة حقنا القوميّ، ونقطة على السطر.
هي عادات القوميين الاجتماعيين في إحياء مناسباتهم الحزبية تحت أيّ طائل ومهما قست الظروف، ولم يسجل أنّ الحزب غاب يوماً عن إحياء تلك المناسبات مهما كانت الأحوال، ملحقة بـ «البيانات المركزية» التي تشكل جزءاً من هذا التقليد تستذكر المناسبات الحزبية الثلات المتمثلة في الأول من آذار 1935 الذي بدأ احتفاءً بسيطاً عفوياً مع باقة ورد على يد ثلاثة رفقاء أرداوها مفاجأة لحضرة الزعيم في عيد مولده لتتحوّل هذه «اللفتة الأنيقة» إلى عيد قوميّ احتفاء بولادة القضية التي أوْجدها سعاده.
والمناسبة الثانية الأكثر توهّجا على منصة الحزب الاحتفائيّة هي ذكرى استشهاد الزعيم في الثامن من تموز 1949 التي عكَف الحزب على إقامة طقوسها التموزيّة في مواعيد متجدّدة إحياءً ووفاءً لذكراه مفكراً وزعيماً استثنائياً وأيقونة معرفية جادة.
ونأتي إلى المناسبة الثالثة التي نحتفل اليوم بمضي 92 عاماً على «تلك الساعة» التي كما أعلنها سعاده يوم «نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الحرية والواجب والنظام والقوة، تاريخ الحزب السوري القومي…».
وبهذه المناسبة تنشط المنابر ومنصات ومحافل الحزب الثقافيّة ومؤسّساته الإداريّة في إعادة تفعيل طروحات مؤسّس الحزب أنطون سعاده العقائدية بما هي وضوح جليّ للمفاهيم القومية ورسوخ حقيقة منطلقاته والمرتكزات الفكرية والعلمية والفلسفية، كما عِلم الاجتماع… وحقائق تاريخية في مسيرة خاضها الحزب نهجاً إبداعياً ارتقت فيها المناقب القومية حافلة بالتحديات والمصاعب والشدائد، حتى الخيارات الصعبة اجتازوها بـ «جوارحهم وجراحهم»، وإنْ كان الحزب قد أخطأ أم أصاب، تعثر أو سدّد المسار، إلا أنها تبقى مسيرة رِجَالٍ صَدَقُوا وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عن إيمانهم، وهو أمر لا يمكن لأحد إنكاره مهما تباينت معهم الاختلافات أو الخلافات.
علماً أننا إذا عُدنا بالسياق الزمنيّ نجد أنّ إدراج هذه المناسبة، أيّ عيد تأسيس الحزب، تأخر نسبياً عن إقامة الاحتفاء به، حيث إنه على خلاف الأول من آذار بقي عيد التأسيس متوارياً عن التقويم الحزبيّ، ولم يكن عيداً مرسّخاً على منصة احتفالات الحزب السنوية غداة تأسيسه في العام 1932 حتى بُعيد انشكافه وخروجه إلى العلن إثر انكشاف أمره بوشاية واشٍ واعتقال الزعيم وعدد من مساعديه بتاريخ 16 تشرين الثاني 1935 بموجب المذكرة التي وضعتها دائرة الأمن العام التي تولّت توقيف الزعيم وأعوانه، ومذكرة التوقيف غير الموقت التي أصدرها قاضي تحقيق المحكمة المختلطة (الفرنسية – اللبنانية).
وقد ساعد توالي حملات التضييق على الحزب والملاحقات التي تعرّض لها خلال السنوات الثلاث التي تلت انكشاف أمر الحزب، وإلى جانب «ارتدادات» خطيرة على الساحة السياسيّة خاصة دور الأحزاب المعادية والمحرّضة على الحزب وعقيدته لتتوالى حملات الاعتقال للزعيم ليُعاد اعتقاله للمره الثانية (30 حزيران سنة 1936) تلاه الاعتقال الثالث (9 آذار 1937) ثم 15 أيار 1937) قبل أن يُصدر قرار نفيه (بمقتضى حكم مبرم بـ 20 سنة سجن و20 سنة بتوقيع الحاكم العسكري للاحتلال الفرنسي بتاريخ 20 آب 1940 (صدر الحكم بعد أن كان سعاده فعلاً غادر إلى اغترابه القسري بتاريخ 11 حزيران 1938).
وبالتالي توارى الاحتفاء بالحزب الناشئ خلف كلّ هذه التعقيدات إلى جانب الضغوط وانشغالات سعاده في تنظيم شؤون حزبه واستكمال منشوارت العقيدة (حتى من داخل السجن)، ويُذكر أنه وضع في هذه الفترة كتاب «شروح المبادئ» و»نشوء الأمة السورية»، كما وضع دستور الحزب وعدة قوانين أخرى، إلى جانب صدور مجلة «النهضة»، عدا أنه بموقعه كزعيم للحزب وقائده ومشرّعه وواضع تعاليمه… كلّ هذه المسائل كانت منوطة به فقط ملزماً نفسه بقسَم الزعامة من أجل خدمة القضية القومية ومصلحة الأمة.
وإذا عدنا إلى خطاب سعاده في أول اجتماع عام في الأول من حزيران 1935، والذي انعقد في منزل نعمة تابت بحضور 200 منتمٍ إلى الحزب، والذي أطلق عليه الخطاب المنهاجي، وجاء قبل ستة أشهر من انكشاف أمر الحزب، وفيه أطلّ سعاده للمرة الأولى بـ «اللباس الرسميّ للحزب» مما أوحى للكثيرين أنه اليوم الذي يُعتبر أنه يوم إعلان تأسيس الحزب، غير أنّ سعاده لم يستعمل في كلّ خطابه كلمة تأسيس بالمعنى الحرفيّ، معلناً انبثاق الحزب وليس تأسيسه: «انبثق الحزب السوري القومي كما ينبثق الفجر من أشدّ ساعات الليل حلكاً ليعلن مبدأ جديداً»، وكلمة «تكوين» بدل تأسيس: «لم يكن للشعب السوري، قبل تكوين الحزب السوري القومي، قضية قومية بالمعنى الصحيح». ليختم خطابه «بموعد قريب سيأتي يوماً، وهو قريب، يشهد فيه العالم منظراً جديداً وحادثاً خطيراً»، ولم يحدّد هذا اليوم.
أما التصريح عن تأسيس الحزب فقد جاء للمرة الأولى في مقال نشرته جريدة النهضة (العدد 29 – 16/11/1937) أعلن فيه سعاده «في مثل هذا اليوم تماماً، هذا اليوم تاريخي في حياة الأمة. ففي مثل هذا اليوم، منذ سنتين تماماً، أُعلن للعالم أنّ الأمة السورية قد ابتدأت تاريخها»، مثبتاً أنّ يوم انكشاف الحزب هو يوم إعلان تأسيسه في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة خمس وثلاثين وتسعمئة وألف، ولمرور ثلاث سنوات على تأسيس الحزب السوري القومي، انبثّ رجال دائرة الأمن العام في بيروت في الأحياء التي يسكنها زعيم الحزب ومعاونوه ودخلوا منازلهم باكراً عند الصباح واستاقوهم إلى دائرة الأمن العام».
هكذا أعلن رسمياً أنّ تاريخ تأسيس الحزب السوري القومي هو 16/11/1932.
وتوالت بيانات سعاده بعيد التأسيس بعد أن استقرّ له الأمر في مغتربه القسري، ليعود في مقال نشر في مجلة الزوبعة، (بوينس آيرس العدد 32، 15/11/1941) على أنّ في: «16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935 أزيح الستار لتظهر النهضة السورية القومية للملأ. فاستعر هذا اليوم لسنة 1932 نظراً لقوّته الرمزية. فأصبح السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني يوماً تاريخياً مشتركاً بين سنة 1932 وسنة 1935». شارحاً في مقدمة المقال حقيقة الالتباس بقوله: «الحقيقة في أمر نشوء الحزب السوري القومي وتاريخه هي أنّ اليوم الذي جمع فيه الزعيم تلاميذ فكرته لينظمهم في حزب يقوم بأعباء القضية ويتولى الجهاد لتحقيقها ليس معروفاً بالضبط لأنه لم يسجّل. وكيفية نشأة الحزب والحوادث الصغيرة التي جرت له في بدء تأسيسه، وبعضها مذكور في خطاب الزعيم سنة 1938، جعلت من الصعب ضبط تاريخ اليوم الذي ابتدأ فيه الحزب السوري القومي حياته وأعماله. ولكن من المؤكد أنّ هذا الحادث التاريخيّ الذي بعث الأمة السورية حية جرى في يوم بين أواسط أكتوبر/ تشرين الأول وأواسط نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1932. ولمّا كان اليوم السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني هو اليوم الذي أُوقف فيه الزعيم وأركان إدارة الحزب، أعضاء مجلس العمد، وأُودعوا سجن الرمل في بيروت سنة 1935 ليجري التحقيق في أمر الحزب وحركته، فقد قرّر الزعيم اختيار هذا اليوم عينه من عام 1932 ليكون تاريخاً لتأسيس الحزب السوري القومي، لأنه في هذا اليوم عينه من سنة 1935 أعلن للشعب السوري وجود الحزب السوري القومي بواسطة المذكرة التي وضعتها دائرة الأمن العام التي تولّت توقيف الزعيم وأعوانه».
(والجدير بالذكر أنه في العدد المنشور ذاته فيه المقال أعلاه رقم 32، 15/11/1941 وجّه الزعيم خطاباً بمناسبة عيد التأسيس).
وبرغم التوضيح الذي أشار إليه سعاده في العام 1941 بخصوص يوم التأسيس ليعود في رسالة إلى غسان تويني بتاريخ 13/12/1946 يذكره بالقول: «غداً مساء موعد الاحتفال الذي تقيمه بوانس أيرس والجمعية السورية الثقافية بما اصطلحت الإدارة في الوطن على تسميته «يوم الواجب» وأعلنت أنا منذ سنوات أنه يُعدّ أيضاً يوم نشوء او تأسيس الحزب نظراً لمغزاه الكبير ولعدم وجود يوم معيّن تأسيسي للحزب الذي نشأ بالاعتناق التتابعي للعقيدة من قبل الأفراد وليس باجتماع معيّن في يوم معيّن، ولأنّ 30 نوفمبر لا يبعد كثيراً عن تولد الحركة في أول السنة الدراسية في الجامعة سنة 1932، وكان قد تقرّر تأجيل الاحتفال عن يوم الذكرى عينه إلى 16 الشهر الماضي لأنه كان يحتمل انتقالي الى بوانس ايرس في 28 منه ثم تأجل إلى الرابع عشر من ديسمبر الحاضر ليجري بحضوري».
وفي رسالة أيضاً إلى غسان تويني بتاريخ 9/7/1946 يُعيد سعاده الكلام عن: «افتقاد المعلومات لمعرفة تاريخ نشأة الحزب بالقول «فترى، أيها الرفيق العزيز، كم هي شاقة مهمة جمع الملعومات الأولية الكافية لمعرفة حوادث تاريخ نشأة حزبنا والقضايا التي اكتنفت هذه النشأة».
وتوالت بيانات سعاده وخطبه بمناسبة ذكرى التأسيس وجميعها نشرت في جريدة «الزوبعة» الصادرة في بوانس آيرس – الأرجنتين على مدى السنوات التالية (وتوقفت البيانات أثر عودته الى الوطن في 2 آذار 1947).