بين مشروعين: 29 آب 1897 ـ 16 تشرين الثاني 1932
أثبت أنموذج الفداء ومنهج الزعامة أنه نهج مؤسسيّ لا ينتهي بنهاية الزعيم، ولا يتقولب حسب المواسم و(الموضة الدارجة)، وإنما يبقى راسخاً نامياً ومهدداً أعداء الأمة
أقيم المشروع المعادي على أرض بلادنا لسبب رئيس وهو خدمة المصالح الغربية التي أرادت أن ترث الدولة العثمانية المتهالكة، والتي تعاني من أمراض لا شفاء منها، دون أن تسمح لنا ببناء دولتنا القومية. وعملت على تجزئة بلادنا جغرافياً وإثنياً وطائفياً فيما كان السبب الثانوي الذي تقاطع مع السبب الرئيس هي المسألة اليهودية في روسيا ووسط أوروبا، حيث إن الشعوب هناك لا تريدهم أن يبقوا في مجتمعاتها، وتتهمهم بالقذارة والدناءة، ونشر الرذيلة. فيما رغب هؤلاء اليهود في إيجاد مكان يقيمون فيه وطناً. وكانت هذه نقطة البداية في المشروع المعادي الذي قاده الصحافي الفقير الهارب من الدائنين والمتسكّع، صاحب الاهتمام بالشؤون المسرحية ثيودور هرتزل. وتوافرت لديه الأموال من القوى الغربية التي جعلته قادراً على دعوة مئات من اليهود لعقد مؤتمر بازل الأول في سويسرا بتاريخ 29 آب 1897، حيث قرّر المؤتمرُ العملَ على إيجاد وطن لليهود في بلادنا، معترف به من القوى الدولية!
وفي خطاب اختتام المؤتمر الذي ألقاه هيرتزل قال: إني أستطيع أن أؤكد لكم أن الدولة اليهودية ستقوم على أرض «إسرائيل» في موعد أقصاه 50 عاماً من اليوم. حدّها الشمالي نهر الليطاني، وحدّها الغربي البحر الأبيض المتوسط فيما ترك الحدود الجنوبية والشرقية دون تحديد.
لم تكن الأمة تملك إرادتها الحرة التي سلبتها إياها الدولة العثمانية، وبشكل خاص بعد سياسة التتريك التي اعتمدتها جمعية الاتحاد والترقي والتي كان لها وجه آخر انعكس على أبناء أمتنا وهو التجهيل. فوفدت جموع اليهود إلى فلسطين وتملكوا بعض الأراضي وأقاموا المزارع الحديثة والمصانع المتطوّرة بدعم مالي وسياسي وتقني منقطع النظير من الغرب عموماً ومن الحكومة الإنجليزية خصوصاً.
عندما أصبحت فلسطين بموجب تقسيمات سايكس – بيكو ثم سان ريمو من حصة الإنجليز، كان المندوب السامي الإنجليزي الأول هو اليهودي الصهيوني الكبير السير هيربرت صامويل، الذي وضع نصب عينيه تحقيق الأهداف السريعة التالية:
أولاً: تمكين اليهود من الهجرة وتملّك الأرض ودعمهم من قبل إدارة الانتداب.
ثانياً: فصل فلسطين عن محيطها القوميّ والعمل على إنشاء هوية فلسطينية مستقلة تتصادم مع الهوية القومية الجامعة.
ثالثاً: خلق شرعيّات سياسيّة دينية فلسطينية وقيادات مصنوعة في مكاتب الإدارة الإنجليزية تتناغم مع ما تقدّم.
كانت قيادات الأمة قد انتظمت على شكل تجمّعات عشائرية أو مصلحية أو مناطقية أو طائفية صنعت بإرادات إنجليزية أو فرنسية. وبالتالي لم تكن بمستوى هذا التحدي الكبير الذي جعل المشروع المعادي يتقدّم، فيما حالة التجزئة القومية تتعمق وتترسخ وتنشأ وتتقوى الهويات الفرعية المتصادمة مع الهوية القومية برعاية من الدول المنتدبة.
وفي حين كانت الأمة المنقسمة إلى أشلاء، وشظايا هويّات زائفة، وجغرافيا مصطنعة لاهية عن مصيرها، ولاعبة بصغائر الأمور والتنافس على المواقع، وتحقيق المكاسب الشخصية والعشائرية والطائفية والمناطقية على حساب مصالح الأمة العليا، كان فتى الربيع أنطون سعاده قد استشعر الخطر المعادي. ربما لم يكن وحيداً، ولكنه الوحيد الذي أدرك ميكانيكيّة عمل ذلك المشروع. ووضع نصب عينيه التصدّي له بخطة نظامية علمية حضارية مضادّة تقوم على تحديد المفاهيم أولاً، والانطلاق من المفاهيم الصحيحة والمبادئ القويمة إلى الخطة العملية ثانياً. وهذا ما اكتمل في السادس عشر من تشرين الثاني 1932، في حين كان غوغاء القيادات لا زال يرى إمكانيّة محاربة النظام بالفوضى، والعلم بالسحر والشعوذة، والخطط الدقيقة بالارتجال.
النهضة كانت الكلمة المفتاح. إذ في حين كانت ثقافة قوى الاستعمار وتحالفاتها وأدواتها، الحركة الصهيونية وقوى التخلف المحلية والشرعيات المصنوعة بأيدٍ أجنبية، تعمّم قيم الانتهازية والأنانية والفردانية، كان للمؤسسة القومية برنامج آخر وهو إقامة النهضة القومية. وذلك في مواجهة الهبوط والانحدار الفكري والثقافي والأدبي. وجعلت للنهضة مكانة مركزية حيث إنها الأساس الراسخ الذي تقوم عليه عملية التحرر والانعتاق من التخلف الاجتماعي والفوضى الفكرية. وتتجاوز التجزئة بكل معانيها ومفاهيمها، وتسعى إلى أن تكون الأفكار والمبادئ والمفاهيم جلية واضحة. إنها ليست كلاماً مرصوفاً وجميلاً ومنمقاً فقط، وإنما عمل تصاعدي لبناء الأمة المدركة لحقيقتها ومصالحها التي تتفوّق على كل مصلحة أخرى. إنها الخروج من حالة التفسخ والبلبلة إلى حالة الوضوح والعمل المنتج المفيد. ولم يكن من بد أمام هذه النهضة إلا أن تتصادم مع المفاهيم والأفكار التي تراكمت في عصور الانحطاط وزاد عليها الاستعمار الحديث كثيراً من عندياته. ولا بدّ لها من أن تشتبك مع مصالح مَن يتكئ في مشروعيته الزائفة على الإرادات الأجنبية.
كان الاستعمار الذكيّ والمنظم أول من أدرك خطورة أنطون سعاده ومشروعه، وكانت صنائع الاستعمار (يهود الداخل بأنواعهم) ثاني من أدرك ذلك، ولكن هي من أخذت على عاتقها وكلفت من قبل صانعيها بأن تتصدّى للمشروع وذلك بإقامة الأحزاب الطائفية والإثنية والكيانية التي تعتمدها وتعتبر تقسيماته ذات طبيعة أزلية، الأمر الذي ترافق مع تزييف التاريخ ونشر ثقافة الانعزال وقيم الفردانية وطرق البحث عن الخلاص الشخصيّ خارج المجموع القوميّ. فكان تآمر ثم تآمر، وصولاً إلى استشهاده في الثامن من تموز 1949 مكرساً مثلاً وأنموذجاً يتناقض مع ثقافة الغوغاء وكأنه كان يقول بروحي ودمي أنا أفدي بلادي وأمتي.
أنموذج الفداء ومنهج الزعامة هذا الذي اعتبره آخرون نهجاً فردياً وديكتاتورياً، وأقاموا نقدهم وشنّوا هجومهم على العقيدة القومية ومؤسساتها على هذا الأساس. أثبت أنه نهج مؤسسيّ لا ينتهي بنهاية الزعيم، ولا يتقولب حسب المواسم و(الموضة الدارجة)، وإنما يبقى راسخاً نامياً ومهدداً أعداء الأمة الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن التآمر والكيد للمؤسسة. فكان الاضطهاد غير المسبوق للقوميين 1955 و1961- 1962 مما أنهك المؤسسة وإن لم ينهك أبناءها القابضين على جمر العقيدة، ثباتاً في الصراع الوجودي.