«وقف إطلاق النار» إقرار بعجز القوة العسكرية
} د. حسن أحمد حسن*
انشغلت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي على مختلف مسمّياتها المتعددة في الأيام القليلة الماضية بالحديث عن قرب الإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار على جبهة لبنان المقاوم، وبعيداً عن التفاؤل أو التشاؤم، وعما قد تسفر عنها الساعات المقبلة التي قد تشهد إعلاناً رسمياً لوقف إطلاق النار قبل موعد نشر هذه المقالة يوم الأربعاء 27/11/2024م، وقد نكون أمام روايات أخرى لتسويق تأجيل الإعلان، إلا أنّ الثابت الوحيد الذي يمكن البناء عليه ضمن هذه المتغيّرات المتشابكة والمتوزعة بين حدّي التناقض والتكامل يكمن في الأداء الملحمي لرجال المقاومة في حزب الله، وما يسطرونه من إنجازات أقرب ما تكون إلى الإعجاز، وأيّ كلام آخر يتحدث عن ضغوط تمارسها إدارة بايدن على حكومة نتنياهو يبقى لغواً لا يحمل في طياته أيّ مؤشر أو قرينة دالة تقنع العقل. فمن يعرقل مجلس الأمن ويستخدم الفيتو لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار في غزة لا يمكن أن يقف على الضفة الأخرى إلا عندما يُرْغَم على ذلك جراء بوصلة الميدان وما تسفر عنه الأعمال القتالية بين خمس فرق عسكرية إسرائيلية وبين كوكبة من المقاومين الذين أعاروا جماجمهم لله، وتسابقوا لتلقين جنود الجيش «الإسرائيلي» وضباطه وجنرالاته دروساً عملية في كيفية خوض الأعمال القتالية، والنجاح في منع الفرق الخمس بما فيها ألوية النخبة من إحكام السيطرة على أيّ من قرى وبلدات الحافة الأمامية على امتداد الجبهة اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة.
تكاملاً مع الفقرة السابقة يمكن القول: من يصف قرار محكمة الجنايات الدولية بـ «الشائن» لأنه أصدر مذكرة اعتقال بحق المجرمين نتنياهو وغالانت لا يمكن أن يفكر بطريقة أخرى تقلل من قدرة القتلة ومصاصي الدماء على سفك المزيد من دماء الأبرياء، وإطلاق الحبل على غاربه لآلة القتل والإبادة والتدمير لتفعل فعلها الذي تجاوز كلّ السقوف المعروفة في التاريخ، ومع ذلك عجزت عن مصادرة إرادة أهل الإرادة والبأس واليقين بالقدرة على تعفير جباه مصاصي الدماء الأكثر إرهاباً وإجراما بأوحال العجز المركب والمتفاقم وصولاً إلى الإقرار بقدرة من يقاتل أولئك المجرمين ومن يدعمهم على منع وحوش العصر من تحقيق أهدافهم الشريرة.
سواء تمّ الإعلان عن توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، أم لم يتم فقراءة المشهد بصورة بانورامية شاملة تبين لمن يريد أن يقرأ بشكل صحيح المدخلات التي قد تؤدي إلى وقف إطلاق النار، ومنها:
*قبل انطلاق ما أسمته تل أبيب «العملية البرية» في جنوب لبنان تبجّح نتنياهو وغالانت وغيرهما من المسؤولين الإسرائيليين العسكريين والسياسيين بأنه تمّ تدمير 80% من القدرة الصاروخية لحزب الله، وهذا كفيل ببدء عملية التوغل البري وسحق ما تبقى من وحدات مقاتلة تابعة للحزب، واليوم وبعد مرور أكثر من ستين يوماً يتضح كذب هذه الرواية جملة وتفصيلاً.
*يوم الأحد الأسود على الكيان الإسرائيلي حمل في رسائله الكثير من الدلالات التي فرضت ذاتها على طاولة مفاصل صنع القرار في الدولة العميقة بواجهتها الديمقراطية لإدارة بايدن، ويبدو أنّ طاولة أولئك لم تتسع للسيل المتدفق من معطيات الجبهة ومسرح العمليات القتالية بصورتها الجديدة التي صدّرها حزب الله يوم الأحد الواقع في 24/11/2024م، ومن تفاصيل تلك الصورة:
ـ ارتفاع معدل العمليات اليومية التي نفذها حزب الله في التاريخ المذكور، وقد بلغت (51) عملية موثقة ببيانات رسمية، تتضمّن نوعية الأسلحة المستخدمة وأماكن الاستهداف، والتوقيت، والنتائج الأولية التي توفرت حتى لحظة إعداد البيان.
ـ تثبيت معادلة «تل أبيب مقابل بيروت» وقد اشتعلت ألسنة النيران التي خلفتها الصواريخ والمُسيّرات التي استهدفت العمق الاستيطاني الإسرائيلي في مواقع متعددة داخل تل أبيب نفسها.
ـ توسيع دائرة الاستهداف المباشر بنيران المقاومة التي توزعت على معظم المدن والبلدات الإسرائيلية على امتداد الشريط الساحلي وفي العمق الداخلي أيضاً، حيث نفذت المقاومة في حزب الله 17 استهدافاً مباشراً في العمق التعبوي الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة، إضافة إلى تركيز القصف الذي طال حيفا وعكا ونهاريا ونتانيا وبقية مناطق الوسط، ووصل بعض تلك الاستهدافات إلى أقصى الجنوب أيضاً، بما في ذلك قاعدة أشدود البحرية.
ـ إطلاق صفارات الإنذار في شتى أنحاء الكيان، واضطرار ما يزيد عن أربعة ملايين مستوطن على التوجه إلى الملاجئ والغرف المحصنة، وعندما نتحدث عن أكثر من 500 مرة تمّ فيها تشغيل صفارات الإنذار عندها تتضح صورة أيّ يوم أسود عاشه الكيان من الشمال إلى الجنوب.
ـ إعادة تذكير الكيان الإسرائيلي، مستوطنين وعسكريين، بمجزرة الميركافا في وادي الحجير 2006م. وتقديم صورة أكثر إثارة بمجزرة جديدة أبدعَ فيها المقاومون بتدمير فخر الصناعة الإسرائيلية دبابات الميركافا في التخوم الشرقية لبلدة البياضة، وتحويل لا أقلّ من خمس دبابات إلى كتل ملتهبة بمن فيها، وهذا كفيل بإسقاط أي مراهنة على سلاح الدبابات وبقية أنواع المدرّعات التي ينتظرها التدمير الحتمي مع أيّ توغل بري في الجنوب اللبناني.
ـ الإنجازات الميدانية التي يحققها المقاومون في أرض الميدان تتكامل مع الصمود الأسطوري للبيئة الحاضنة التي تثبت كل يوم أن القيادة الاستثنائية لسماحة سيد شهداء المقاومة سماحة الشهيد الأقدس حسن نصر الله قد نجحت في خلق حالة من الانصهار والتكامل بين المجاهدين وبيئتهم الحاضنة التي تزداد إصراراً على التمسك بعقيدتها الجهادية الكربلائية التي لا يفيد معها تهديد ولا وعيد، ولا يجدي إجرام ولا تدمير ولا تهجير ولا كلّ أساليب التوحش والإجرام، بل يزيدها ذلك تمسكاً بقناعاتها واحتضاناً لمقاوميها المنتشرين على امتداد خطوط المواجهة المفتوحة، ومعاً يكملون الواجب الجهادي المقدس، وأعينهم مفتوحة على الثأر والنصر بآن معاً.
*التوصل إلى توقيع اتفاق لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية محكوم بقناعة مفاصل صنع القرار الأميركي بعجز كيانهم الوظيفي عن تحمّل تكلفة الاستمرار بحرب مجهولة النتيجة النهائية، ورجحان كفة التكلفة المتزايدة على كفة المردودية التي بدأت تتآكل وعلى شتى الصعد، واهتمام الدولة العميقة بالكيان ككل أكبر من اهتمامها بأيّ شخص في الكيان، حتى وإنْ كان يشغل منصب رئيس الوزراء.
*المزاج الدولي العام وإنْ لم تتبلور معالمه العامة كما يجب بعد إلا أنه بمؤشراته وقرائنه الدالة يؤكد تراخي القبضة الأميركية المتزايد عن الإمساك بربقة القرار الدولي، وما قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت إلا الشاهد الأبلغ على صحة هذا القول، وإذا أضفنا إلى ذلك الردّ الروسي على الحماقة الأميركية والأوروبية بالسماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي بصواريخ أميركية وأطلسية بعيدة المدى يتضح لكلّ من يريد أن يفهم مؤشرات المستقبل القريب أنّ العالم يمرّ بمرحلة مفصلية وحساسة، فتوقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العقيدة النووية الروسية الجديدة ليس حدثاً عابراً، واستخدام صاروخ «أوريشنيك» فرط الصوتي وتدمير المجمع الصناعي العسكري الأكبر في أوكرانيا رسالة لا تستطيع مفاصل صنع القرار الأميركي تجاهلها، ولا التعامل مع تداعياتها بحماقة وتهور.
خلاصة:
إذا تمّ الإعلان عن توقيع اتفاق لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية فالفضل أولاً وأخيراً لصمود المقاومة وأدائها البطولي، وإذا كان وراء الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق أي أهداف شريرة مخفية أو مبيّتة، فالمقاومة التي أعادت للبنان معاني القوة والمنعة قادرة على إرغام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة الحسابات، وقادرة على صيانة سلاحها وعوامل قوّتها، وواهم من يظنّ أنه يمكن القبول بأيّ اتفاق ينص على السماح للكيان المجرم بحرية الحركة والاعتداء متى يطيب له ذلك.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.