«أعطنا خبزنا كفاف يومنا»
المهندس باسل قس نصر الله
«اليوم الخبز مجاناً… فقط أدعوا له»،
تفاجأت في إحدى المرات عندما ذهبت لأجلب الخبز أن أسمع منه هذه العبارة.
في هذه الأزمات التي تتدحرج على الإنسان الحلبي.. يأتي شخص أو عدّة أشخاص ليدفعوا قيمة الخبز كنوع من زكاة أو كفارة أو سمّها ما شئت.. فيقوم البائع بتوزيع الخبز مجاناً، والأجمل أنّ الخبز تمّ توزيعه لجميع الذين كانوا ينتظرون «خبزهم كفاف يومهم» دون أن يسأل موزّع الخبز عن الانتماء الديني… سواء كان الذي تسلّم الخبز مسلماً أو مسيحياً.
ويتكرّر هذا البيع المجاني من أشخاصٍ مجهولين.
بقدرِ ما دُهِشتُ.. كانت فرحتي كبيرة لأنه لا يزال هنالك قلوب تشعر بمعاناة الناس.. وهذا تأكيد أنّ الإنسان أخ للإنسان.
تحمّل هذا الإنسان الكثير.. فهذه الـ «حلب» التي عشقها، هي من مزهرية سورية الجميلة.
مرّ زمن والأشخاص الذين أعرفهم ويأتون لشراء الخبز يتناقصون.. ويسافرون ويتشتّتون في المهاجر، فمنذ أوائل الأحداث والأزمة السورية، بدأوا بالنزوح والاغتراب في دول العالم، وبدأت أبواب بيوتهم تُغلق، الواحد تلو الآخر.
أبوابكم المغلقة تحزنني.. والخير الذي يقوم به مجهولون يفرحني.
كم مررت في الشوارع التي كنت أمرّ بها، أنظرُ إلى الأبنية وبيوتكم المغلقة.. وأتذكّر، فهنا بطرس وهناك أحمد.
كم ارتشفتُ فناجين القهوة من يد أم جورج على هذه الشرفة؟
كم كنا ندرس في الشتاء عند «حمودة» في هذا المنزل؟
أتذكر التبولة التي تجهّزها زوجة صديقي في أمسيات الأحد.
تزوّجنا… وربّينا أولادنا… وكبرنا
واليوم… أمشي وحيداً وحزيناً أمام أبوابكم التي لن تُفتح من جديد.
عذرا فيروز… فمهما صدح صوتك الملائكي بأننا «سنرجع يوما».. فهم لن يرجعوا،
سيعودون ليبيعوا منازلهم.. وأرصفتهم.. وأحلام طفولتهم.
سيأتون ليأكلوا ما كنا نأكله سوية في الماضي.. ونتصوّر صوراً تذكارية.. ثم يعودون إلى الغربة…
أعرف أنكم مهما كذبنا بأنكم عائدون.. لن تعودوا،
وأنّ ساحاتنا لن تراكم من جديد.. وأنّ مقاعد مقاهينا وأنديتنا لن تراكم من جديد.. ومهما كان الخبز مجانياً فإنكم لن تعودوا،
نحن الذين بقينا، سنحمل ذكريات زمن جميل،
شكراً لكلّ من يساهم في بلسمة جراح الإنسان،
شكراً لهذا الخبز المجاني الذي نتقاسمه مع الجميع،
مجّاناً أخذتم ومجّاناً أعطوا،
في المسيحية «اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا»
وفي الإسلام…
اللهم اشهد أني بلغت.