ما بعد الانتخابات الأميركية: رهانات وأبعاد…
زياد حافظ*
مما لا شك فيه أنّ الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأميركية في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر كانت انتخابات مفصلية عكست التحوّلات داخل المجتمع الأميركي كما عكست أيضاً التحوّلات على الصعيد الدولي. فالعامل الخارجي كان عنصراً مهماً في تحديد خيارات الناخب الأميركي بسبب الحروب التي تنخرط فيها الولايات المتحدة سواء في شرق أوروبا (أوكرانيا) أو غرب آسيا (فلسطين والمشرق العربي) وحتى مع الجمهورية الإسلامية في إيران. صحيح أنّ استطلاعات الرأي العام حول «أولويات» الناخب الأميركي لم تشر بشكل مباشر إلى التوّرط الأميركي في حروب لا تعني المواطن الأميركي ألاّ أنّ المطالب الداخلية هي التي في طليعة اهتماماته مرتبطة بإمكانيات الدولة الاتحادية على توفير الموارد التي تُزهق في حروب عبيثة وتُحجب عن تلبية حاجات المواطن الأميركي. فالتساؤل حول حجم المساعدات المالية التي ترسل للكيان ولأوكرانيا على حساب متطلّبات المواطن الأميركي هو في صلب الخطاب السياسي بين القوى المتصارعة.
المعركة الانتخابية كانت إسمياً بين حزبين إلاّ أنهما جناحان للحزب الواحد. لكن في الحقيقة، فإنّ المعركة الانتخابية لها طابع طبقي لم يكن موجوداً في الدورات الانتخابية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فهي تجسيد لصراع بين نخب محترفة لا تكترث لمصالح الجمهور العام، بل لمصالحها فقط، وقاعدة شعبية بعيدة عن أولويات تلك النخب. وهذه المنازلة الطبقية ليست بين من يملك وسائل الإنتاج وبين الطبقة العاملة لأن الولايات المتحدة خرجت من الحقبة الصناعية إلى الحقبة الخدمية المالية الريعية حيث ملكية الإنتاج لم يعد لها المفهوم والبعد الطبقي. ما زال راس المال مهمّا ومهيمنا لكنه لم يعد يُوظّف في الإنتاج، بل في الاقتصاد الافتراضي الريعي المالي. هذا يعني أن طبقة جديدة برزت إلى الواجهة تدير ذلك الاقتصاد الافتراضي وهي طبقة المحترفين الإداريين (professional managerial class). فالنقابات العمّالية التي كانت تحمل قضايا الطبقة العاملة تراجع دورها إن لم تفقده كلّيا فأصبحت المواجهة بين تلك الطبقة من النخب الحاكمة وما تبقّى من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة. ومن يؤكّد على ذلك هم الديمقراطيون أنفسهم كقول هيلاري كلنتون أن من يصوّت لترامب هم من «سلّة المنبوذين» بينما الرئيس بايدن قال إن من يصوّت لترامب هم من «الزبالة»! المهم هنا أن المفهوم الطبقي الجديد الذي وصفه الاقتصادي المميّز مايكل هدسون في سلسلة من المؤلفات والمقالات والمداخلات المرئية والصوتية هو أن الطبقة الجديدة تمثّل القطاعات التي تتحكّم بالاقتصاد الأميركي، أي قطاع المال والتأمين والعقار. واستعمل مصطلح «فاير» أي الأحرف الأولى لقطاع المال (finance) وقطاع التأمين (Insurance) والقطاع العقاري (real estate). فـ»النار» هو الاقتصاد الأميركي الحالي ومن الطبيعي أن تكون تداعياته على الجمهور الأميركي العام الذي يرفض ذلك النوع من الاقتصاد. وهنا تكمن القاعدة الاقتصادية للحركة الشعبوية الأميركية والتي شكّلت متن الخطاب السياسي لدونالد ترامب الذي يريد إحياء القطاع الإنتاجي بشكل عام وخاصة القطاع الصناعي.
انعكاسات التحوّلات الاقتصادية المذكورة تجلّت أيضاً في البنية السكّانية والجغرافية للولايات المتحدة حيث سكّان الريف وضواحي المدن الكبرى لا ينتمون إلى الطبقة السياسية الجديدة. وقد أظهرت الانتخابات الأخيرة مدى التحوّل السياسي حيث الأكثرية الساحقة من الولايات وخاصة على صعيد المقاطعات والدوائر المصغّرة أصبحت تميل بشكل واضح إلى الحركة الشعبوية التي يمثّلها ترامب وإلى حدّ ما روبرت كندي جونيور المتحالف مع ترامب. فالحزب الجمهوري أصبح يتكلّم عن مصالح الطبقة العاملة بينما الحزب الديمقراطي أصبح يتكلّم عن مصالح طبقة المحترفين الإداريين. وهذا التحوّل السياسي في الصراع يعكس مدى عدم الرضى الشعبي الأميركي عن الخيارات المفروضة عليه. فنظام ثنائية الأحزاب لم يعد مقبولاً بالتالي لا بد من التوقّع أن تحدث تعديلات في البنية السياسية.
القراءة الأوّلية للأجندة السياسية لترامب تدلّ أنه يقود التيّار السياسي الرافض للعولمة بشكل عام عبر طرح شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى». هذا الشعار هو اعتراف بتراجع مكانة الولايات المتحدة في العالم وفي إخفاق الطبقة الحاكمة في محاكاة مصالح الشعب الأميركي. ويترجم ترامب شعاره طرح إعادة الاعتبار للصناعة التي تمّ تفكيك بنيتها منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
من هنا نفهم مدى أبعاد البرنامج السياسي لترامب والتفويض النسبي الذي حصل عليه. فالانتخابات الأخيرة كانت بالنسبة لأنصار ترامب بمثابة «طوفان» على الصعيد الشعبي وفي الكلّية الانتخابية انعكس في أكثرية شعبية لترامب وأكثرية نيابية في مجلس النوّاب وأكثرية في مجلس الشيوخ. لكن هذا الرأي لا تشاطره بعض مراكز الأبحاث المحسوبة على التيّار النيوليبرالي والمعولم. فالأكثرية التي حصل عليها ليست جارفة كما يعتقد الكثيرون وقد لن تؤمّن له فرص النجاح بتمرير القوانين التي يريدها. فمجلس العلاقات الدولية، وهو من أهم مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة وهو أحد مكوّنات الدولة العميقة، فهذا المجلس غير مقتنع بالتفويض الذي أعطي لترامب. هذا ما جاء في مقال لافت للنظر نُشر على موقع تابع لمجلس العلاقات الخارجية بتاريخ 22 تشرين الثاني وبقلم جيمس ليندسي.
كما لا بد من التحذير أن القيادات التقليدية للحزب الجمهوري غير راضية عن توجّهات ترامب وقد تعمل لإبطال الاجندة السياسية التي يحملها! هذا ما أكدّه الدبلوماسي البريطاني المرموق والضابط السابق في المخابرات البريطانية اليستر كروك أن الدولة العميقة والقيادات التقليدية للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ ومجلس النوّاب سيعملون على تعطيل أجندة ترامب في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية. فخطابه الانتخابي يسعى إلى عدم التورّط في حروب خارجية للانصراف إلى معالجة الوضع الداخلي. الدولة العميقة، أو على الأقل الجهات التي لا ترغب في تغيير المشهد الداخلي القائم، تدفع إلى التورّط في الخارج. هذا هو دور المجتمع الاستخباري والأمني الذي على ما يبدو كان وراء التصعيد الأخير في أوكرانيا في «السماح» لأوكرانيا استهداف العمق الروسي بصواريخ متوسطة المدى. وهذا الاستعمال للصواريخ المتوسّطة المدى لا يمكن ان يتمّ إلاّ بمشاركة فعّالة للأطلسي وخاصة الولايات المتحدة عبر شبكة الأقمار الصناعية التي تحدّد إحداثيات الأهداف للصواريخ. فالقوّات الأوكرانية لا تملك مثل هذه الأقمار، وبالتالي هذه تعني مشاركة مباشرة في الحرب تخلق أمرا واقعاً يرثه ترامب عند دخوله إلى البيت الأبيض.
الحرب الثانية التي يمكن أن تُفرض على ترامب هي المواجهة مع الجمهورية الإسلامية في إيران تلبية لمطالب نتنياهو والكونغرس الأميركي التابع للوبي الصهيوني، بغض النظر عن النتائج الكارثية التي ستقع على عاتق الولايات المتحدة في المنطقة. والفريق الحكومي الذي أعدّه ترامب في الخارجية ومجلس الأمن القومي والدفاع ووزارة العدل والسفراء لمجلس الأمن وللكيان الصهيوني من أنصار «إسرائيل أوّلا». السؤال هل يستطيعون ردع ترامب عن محاولاته لعدم الانخراط في حرب لا يريدها معظم الأميركيين؟ هذا هو السؤال المطروح. في هذا السياق نعتقد أن ذلك الفريق فاقد لقاعدة سياسية وشعبية يستطيع أن يستند إليها ليعارض إذا لزم الأمر قرارات الرئيس المنتخب. فانتقاؤهم يجعلهم تابعين له وولاءهم له وليس للأجندة السياسية التي يمكن أن يحملوها. لذلك، إن أقدم ترامب على الشروع لعقد صفقات مع روسيا أو الجمهورية في إيران أو الخروج من سورية فإن فريقه المرتقب سيلتزم وإلاّ سيواجه الإقصاء من الحكومة. الناخب الأميركي عبّر بشكل واضح عن عدم رغبته في الانخراط في حروب جديدة وعن ضرورة الخروج من الحروب القائمة. فلن يتجرّا فريق ترامب على السير في خطوات تصعيدية جادة لمواجهة كل من روسيا أو الصين أو الجمهورية الإسلامية. فالتصعيد الكلامي قد يكون جزءًا من خطّة ترامب في استراتيجيته التفاوضية وليس للذهاب إلى مواجهة في الميدان. هذا هو رهان نتنياهو والمحافظين الجدد الذي يستند إلى تصريحات وزير الخارجية المرتقب مارك روبيو أو وزير الدفاع بيتر هيغسيت أو مستشار الأمن القومي مايك والتز أو سفيرته لدى مجلس الأمن اليز ستنفانيك. فهناك أصوات أكثر عقلانية كتولسي غابارد مديرة الاستخبارات الوطنية التي تشرف على جميع المؤسسات الاستخبارية بما فيها وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي أيه). في آخر المطاف فإن ترامب هو من سيقرّر وليس فريقه. هنا أيضا، هل يستطيع ترامب تجاوز آراء من انتقاهم لقيادة السياسة الخارجية؟ الثلاثة الأشهر الأولى من ولايته ستبيّن ذلك.
الرئيس المنتخب ليس رجلا صاحب رؤية سياسية مبنية على عقيدة أو أفكار مسبقة. هو رجل صفقات وبالتالي الاعتبارات العقائدية والسياسية لا تلزمه إلاّ بمقدار ما تساعده على عقد صفقات. كما أنه رجل مهووس بترك إرث سياسي كرجل لا يريد الحروب ويريد أن يحظى بجائزة نوبل للسلام. في ولايته السابقة لم يشن حروبا جديدة خلافا لمن سبقه وخلفه وسيسعى للخروج من حروب يرثها ويتجنب حروبا يُراد الدفع بها من قبل جهات وازنة في الدولة العميقة وقوى ضاغطة في المشهد السياسي الداخلي الأميركي. وهذا ليس أمراً جديدا، بل ناتج عن طبيعة تكوين الولايات المتحدة وتركيبته السياسية والاقتصادية. لكن مقوّمات الاستمرار في تلك السياسة والتوجهات لم تعد قائمة خاصة على الصعيد العسكري والاقتصادي.
هذا الواقع الاقتصادي والمالي الداخلي في الولايات المتحدة إضافة إلى قضايا اجتماعية كقضية الهجرة غير الشرعية الوافدة وقضايا الإجهاض والتربية يشكّل متن الاهتمام للإدارة المقبلة. وفي ما يتعلّق بالشق المالي فالرئيس المنتخب يدعو إلى ترشيق جسم الإدارة عبر تخفيض النفقات وإلغاء الوكالات التابعة للدولة التي تتجاوز ألفي وكالة وبرامج خدمات اجتماعية يعتبرها الرئيس ترامب وفريقه مصدراً للهدر. لذلك يدعو إلى إنشاء وزارة للكفاية العامة في الجسم الإداري والتي سيشرف عليها كل من ايلون ماسك وفيفيك راماسوامي. الاوّل من كبار المموّلين لحملة ترامب الانتخابية وكذلك الثاني الذي كان ينافسه في الانتخابات التمهيدية لكن التحق بفريق ترامب. الوزن الاقتصادي والمالي الذي يمثّلانه امر يلفت النظر بخاصة أن ماسك صاحب منصّة «أكس» (تويتر سابقاً) التي كانت منصّة لترويج الخطاب الانتخابي لترامب. المشكلة تكمن في أن هذه الوزارة المستحدثة لا تملك موازنة ولا طاقم إدارياً حتى الساعة. ربما يستطيع ترامب أن يهيئ الطاقم الإداري خلال الفترة الانتقالية حتى تنصيبه لكن إنشاء تلك الوزارة تحتاج إلى موافقة الكونغرس وكذلك الامر بالنسبة للموازنة. لكن من الواضح أن إقدام ترامب على تلك الخطوة دليل على جدّية توجّهه نحو الداخل الأميركي ومقاربة مصدر كبير للإنفاق الإداري وللهدر الذي سبّب العجز في الموازنة العامة الذي بلغ 7 بالمئة من الناتج الداخلي وتراكم الدين العام الذي قارب 38 تريليون دولار. ومرّة أخرى يمكن طرح السؤال الآتي: هل ستسمح الدولة العميقة بالمسّ في تكوينها؟ فاستهداف الجسم الإداري تحت عنوان «الترشيق» و»إيقاف الهدر» هو استهداف لأحد مكوّنات الدولة العميقة، بل ربما المكوّن الأعرق تاريخياً حيث النظرة إلى الجسم الإداري هي نظرة ناقدة للبنية السياسية التي تأتي بشخصيات غير مؤهّلة لإدارة البلاد، وبالتالي كان لا بد من جسم إداري يقوم بذلك. هذه هي وجهة نظر العديد من المؤرّخين للولايات المتحدة لبعض المحلّلين كجورج فريدمان صاحب موقع ستراتفور المعروف بعلاقاته مع المجتمع الاستخباري.
أما على الصعيد الاقتصادي فسيسعى ترامب إلى إعادة الاعتبار للبنية الصناعية التي تمّ تفكيكها منذ الشروع إلى أمولة الاقتصاد وتوطين القاعدة الإنتاجية خارج الولايات المتحدة. ومشروعه سيعتمد سياسة التعريفة الجمركية لحماية الصناعة الأميركية وتخفيض الضرائب على الشركات وتقديم الحوافز المالية للشركات التي ستستثمر في القطاع الصناعي والتكنولوجي. غير أن هذه الخطة لا تخلو من المخاطر والمطّبات خاصة في ما يتعلّق بالحماية الجمركية التي ستؤثّر بشكل سلبي على التجارة الخارجية الأميركية كما أنها ستضر بسلامة سلسلة التوريد للمصانع الأميركية. لسنا في إطار مقاربة الخطة الاقتصادية في هذا المقال، بل الإشارة إلى أن مشروع ترامب الاقتصادي محفوف بالمخاطر التي ستستغلّها جهات وازنة في الدولة العميقة للبقاء على الوضع القائم وإفشال مشروعه. وإعادة النظر بالبنية الاقتصادية ستصطدم بموروث فكري سياسي واقتصادي انتشر على مدة ستة عقود منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي. فهل يستطيع ترامب أن يغيّر في ذلك الموروث السياسي والاقتصادي؟ لا أحد يستطيع الإجابة على ذلك إلاّ أن الدولة العميقة معنية بمقاربة ذلك التحدّي. فإمّا تتكيّف مع الواقع الجديد وإما تتصدّى له.
في النهاية فإن التحدّيات التي ستواجه ترامب على الصعيد الداخلي كما على الصعيد الخارجي كبيرة جداً قد تصل إلى حد الاستعصاء إن لم يكن جاهزاً على اتخاذ القرارات الصعبة والمؤلمة له ولمصالح الدولة العميقة. وليس من المؤكّد أن الفريق الذي اختاره خلال هذه الفترة الانتقالية هو أفضل ما يوجد في الولايات المتحدة لمعالجة مختلف الملفّات. فعلينا الانتظار مرور مئة اليوم الأولى من الولاية الجديدة لاستشعار موضوعي لما يمكن أن تسفر عنه مشاريع ترامب. فالنافذة المتاحة له لتحقيق برنامجه لا تتجاوز 18 شهراً من الولاية الثانية. فبعد ذلك التاريخ يدخل في مرحلة البطّة العرجاء حيث الانتخابات التالية ستكون الفيصل بالنسبة للإدارة الجديدة.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي