أولى

تلبية حوافزها الدينيّة شرط «إسرائيل» لتنفيذ قرارات أمميّة؟

 

 د. عصام نعمان*

 

في غمرة انتهاكات “إسرائيل” المتكرّرة لـِ “ترتيبات وقف الأعمال العدائيّة” المعروفة إعلامياً باسم اتفاق وقف إطلاق النار بينها وبين لبنان، وارتكاب العدو الصهيوني عدة انتهاكات للاتفاق شملت قرًى وبلدات على حافة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، كما مواقع أخرى على الحدود مع سورية في شرق لبنان وشماله، نظّم “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق” في بيروت، بالتعاون مع “مرصد قانا لحقوق الإنسان” ندوةً بعنوان “حقوقيّون ضدّ العدوان: في المواجهة القانونية”. الندوة خُصّصت لمناقشة صمت الدول العربية عن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان وغزة، رغم ما تلتزم به في ميثاقُ الدفاع المشترك من دعمٍ للبنان، وكذلك صمت المجتمع الدولي لا بل انحيازه علناً الى العدو ومدّه بمختلف وسائل القتل والتدمير.
قُسمت الندوة إلى محاور عدّة تناقشها مجموعة من الأكاديميين، تناولت مختلف مشاهد العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتكبها العدو، على أن يستخلص المشاركون في ختامها الموقف الحقوقيّ المناسب الذي يجب الالتزام به.
شاركتُ في الندوة وركّزتُ كلمتي على أنّ القوانين والمواثيق الدوليّة وقرارات مجلس الأمن الدوليّ تنبع بالدرجة الأولى من الحاجة إلى حماية المصالح ولرعاية الحوافز في هذا السبيل. حمايةُ المصالح حاجة رئيسيّة للأفراد كما للدول. رعاية الحوافز تنبع من ثقافة الأفراد والجماعات وقد تتقدّم في بعض الظروف والأزمان على المصالح. ولعلّ خير دليل على ذلك ما يحدث هذه الأيام في “إسرائيل” بفعل الائتلاف اليمينيّ الشوفينيّ المتطرّف الذي يحكم كيان الاحتلال.
المصالح تكون عادةً اقتصاديّة أو سياسيّة، علنيّة أو باطنيّة، وتتجلّى غالباً في ممارسات حكومات وحركات وأحزاب ونقابات تتوسّل بالسلطة لضمان حمايتها وتعزيزها. الحوافز تنبع غالباً من ثقافة الأفراد والجماعات بما هي مناخ ملؤه أفكار ومعتقدات وأديان وايديولوجيات اجتماعية وسياسية واقتصادية تتجلّى في ممارسات حركات وأحزاب سياسيّة، كما في تحركات جماهير محافظة أو ثائرة، غالباً ما تعبّر عن مشاعرها ومواقفها في الشارع كما في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
لا غلوّ في القول إن الحوافز النابعة من أفكار ورؤى ونبوءات وتصورات وروايات من التوراة والتلمود هي ما تسود المشهدين الاجتماعي والسياسي في كيان الاحتلال هذه الأيام. بعد عملية طوفان الأقصى في 2023/10/7 خرج بنيامين نتنياهو بخطاب توراتيّ بامتياز تحدّث فيه عن معركة “العماليق” في تخطيطه لمواجهة حركة “حماس” في حربِ إبادةٍ تشبه إبادة العماليق على يد “يشوع”، كما جاء في التوراة. فإله اليهود يهوه هو “رب الجند” الذي يصرخ بالمحاربين أن أُقتلوا ودمّروا وأحرقوا مزيداً من الأطفال والنساء والحيوانات تنفيذاً لمشيئتي. وهل ننسى وصيتين بارزتين في السردية التوراتية: الأولى تحرّض اليهود وتعدهم بأن “كل ما تطأه أقدامكم من أراضٍ يكون لكم”. الثانية تؤكد لهم أن “أملاكك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”، وهي منقوشة في لوحة على مدخل الكنيست (البرلمان).
أشيرُ إلى هذه الوصايا والدعوات للتأكيد على أن اليهود، متديّنين وعلمانيّين، مأمورون بحسب التوراة، بأن ينفّذوا مضامينها الأمر الذي يجعل منها مصدراً للتشريع والحكم وإدارة القضاء.
إلى ذلك، تسود الغرب الأوروبي كما الأميركي حاليّاً حملةٌ معادية للإسلام والمسلمين islamophobia، وكذلك للملوّنين من كل مذهب وعرق ودين، الأمر الذي يعطّل التشريع الموضوعيّ ويجعل السلطة حكراً على أبناء الجنس الأبيض.
إزاء هذه الخلفية للتراث اليهوديّ التي تقدّم الحوافز الدينية والإيديولوجية على المصالح الخاصة والعامة المادية والمعنوية، وتُفسد عملية اتخاذ القرارات الوطنية والأخرى ذات البعد الأممي بما يفيد عامة الناس والشعوب بمعزل عن أي تمييز أو تفريق، يتساءل المرء: هل ثمّة غرابة بعدُ في أن يتجاهل العدو الصهيوني ويحرّف ويخرق ويمزّق أكثر من عشرة قرارات أمميّة منذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1947/181 لغاية قراره رقم 2006/1701 وما تلاها من قرارات واتفاقات وترتيبات أمميّة وآخرها ترتيبات وقف الأعمال العدائيّة المعروف إعلامياً باتفاق وقف إطلاق النار بين “إسرائيل” ولبنان للعام 2024؟
هل ثمّة مجال للاستغراب بعدما أصبح العدو ملتزماً بوصايا وتوصيات دينية وحوافز إيديولوجية لرسم سياسته وتنفيذ حروبه الإباديّة ضد العرب عموماً والفلسطينيين واللبنانيين خصوصاً؟
ينهض للتوّ سؤال: كيف يمكننا كلبنانيين إكراه العدو على احترام وتنفيذ قرارات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بلبنان؟
الجواب، باختصار، بأن يكون لنا، بادئ الأمر دولة. نعم، يجب أن نبني في بلادنا دولة هي الآن غير موجودة فعلياً رغم مرور أكثر من ثمانين سنة على الاستقلال. ما لدينا اليوم ليس دولة بل شبه دولة هي في الواقع إطار إداري هشّ يجمع موظفين وهيئات ولجاناً في مبانٍ متهالكة. بناءُ الدولة العتيدة يجب أن يتولّاه اللبنانيون، جميع اللبنانيين، وذلك بمباشرة حوار واسع بمبادرة من قوى الإصلاح الديمقراطي الجدّية داخل مجلس النواب الحالي وخارجه بغية تحقيق توافق وطني عريض على هدفين إصلاحيّين استراتيجيين هما:
أ ـ اعتماد قانون ديمقراطي للانتخابات يحقق صحة التمثيل الشعبي وعدالته على الأسس الآتية: تنفيذ أحكام الدستور، لا سيما المادة 22 منه (مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف “تنحصر صلاحيّاته في القضايا المصيرية”) والمادة 27 منه (“عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء” ما يستوجب اعتماد الدائرة الوطنية الواحدة والتمثيل النسبيّ) والمادة 95 منه (“إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية”) وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة لإشراك أجيال الشباب في المسؤولية العامة بما يؤدي إلى الانتقال تدريجاً من نظام المحاصصة الطائفية إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
ب ـ التوافق على أسس خطة متكاملة للدفاع الوطني تكفل حماية أمن لبنان وسيادته، وتعزيز إرادة مواجهة العدو الصهيوني بالتزام تسليح الجيش الوطني لضمان مشاركته الفعلية في مواجهة الطامعين في أرض الوطن وموارده ومياهه، وذلك بالتعاون مع قوى المقاومة الشعبيّة المتاحة. ولا سبيل إلى قيام جيش وطني فاعل في مواجهة أعداء الوطن إلاّ بوجود دولة حقيقيّة كاملة المؤسسات والصلاحيات.
إنّ المخاطر التي تواجه الجميع، مواطنين ومسؤولين، تستدعي الارتفاع إلى مستوى التحديات الماثلة والشروع دونما إبطاء في توفير أسس وآليات وإرادة للخروج مما نحن فيه من بؤس وتفكك وانحطاط.

*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى