نزوح الألم والصمود…
سارة طالب السهيل
في خضمّ الأحداث التي تعصف بعالمنا اليوم، نجد أنفسنا أمام مشهد إنساني مؤلم يتجلّى في معاناة النازحين. هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا منازلهم، وأحبّاءهم، وأحلامهم، وأصبحوا مجرد أرقام في تقارير الإغاثة، بينما هم في الحقيقة قصص إنسانية تستحق أن تُروى.
تخيّلوا للحظة، أنكم تُجبرون على ترك كلّ ما تعرفونه، كلّ ما تحبّونه، وأنتم تسيرون نحو المجهول، تحملون في قلوبكم آلام الفراق وأحلام العودة. إنهم أطفالٌ لم يعرفوا معنى الأمان، ونساءٌ يحملن في قلوبهن أعباءً ثقيلة، ورجالٌ فقدوا كلّ شيء، لكنهم لا يزالون يحملون الأمل.
إنّ واجبنا اليوم هو أن نرفع أصواتنا من أجل هؤلاء النازحين، لنكون صوتهم في زمن الصمت. لنُظهر لهم أنّ الإنسانية لا تزال موجودة، وأنّ الإصرار لا يزال ينبض في قلوبنا. لنقف جميعاً معاً، لنضيء دروبهم بالحب والدعم، ولنعمل على إعادة بناء ما دمّرته الحروب والصراعات.
دعونا نكون نوراً في ظلامهم، ولنجعل من هذه اللحظة بداية جديدة، حيث نؤكد إنسانيتنا المشتركة، ونُظهر للعالم أنّ الأمل لا يزال حياً، وأنّ التضامن هو السلاح الأقوى في مواجهة المعاناة.
فلنقف معاً، ولنجعل أصواتنا ترتفع، ولنجعل قلوبنا تتوحد من أجل النازحين، لنُظهر لهم أننا لن ننسى، وأننا سنظلّ معهم حتى يعود الحق إلى نصابه.
النزوح، كلمة تجسّد الألم والحزن والفراق. عندما نتحدّث عن النازحين، نحن نتحدّث عن أناس تركوا وراءهم بيوتهم وأحلامهم وذكرياتهم. نتحدّث عن أطفال حملوا على أكتافهم أعباء الحروب، وعن أمهات فقدن الأمل في عيون أبنائهن، وعن رجال تركوا وراءهم كلّ ما بنوه من أجل البحث عن أمان مفقود. هؤلاء الناس ليسوا مجرد أرقام في تقارير الأخبار، بل هم حكايات حية، لكل واحدة منها وجع خاص وأمل بالعودة إلى الديار.
في ذاك الجنوب اللبناني، لم تكن الأشهر الماضية الأخيرة أول مرة. فقد اعتاد الجنوبيون النزوح والصمود والمقاومة، فكيف لا وهم أهل الكرامة الذين لم تدنس مبادئهم، ولم تحدث ثوابتهم مع موجات السقوط الأخلاقي والقيمي التي أصبحت “ترند” وموضة هذا العصر؟ نجد النازحين من جنوب لبنان الذين واجهوا صعاباً لا تُحصى. الهجمات والاحتلالات المتكررة التي أجبرت الآلاف على ترك منازلهم مراراً وتكراراً. وفي كلّ مرة كانوا يتركون خلفهم بيوتاً تهدّمت وشهداء سقت الأرض دماء طاهرة وعناوين للثبات والعبر. فاختاروا الصمود رغم معاناة الفراق عن أرضهم وأحيائهم وذكرياتهم وأحبائهم.
هذا النزوح القاسي خلق ذكريات جديدة لدى كلّ عائلة، حكايات ويوميات من الصمود والمعاناة. هؤلاء الأعزاء في بيوتهم الكرام بين قومهم اضطرّ بعضهم للعيش بعيداً عن أسرهم وحياتهم ورزقهم وأرضهم وزرعهم وحتى حيواناتهم الأليفة.
تركوا غصون الزنبق تبكي أهل الدار، والدار يبكي شجر النوار، وصوت جوليا بطرس الذي يصدح:
عابَ مجدَكَ بالمذلّة والهزائم
حينما هبّ الجنوبُ لكي يقاوم
إنّ تاريخ الإباء غيرُ نائم
يكتبُ عن أرضِنا أرض الملاحم
إنّ أهل العزمِ إنْ تدعى العزائم
هذا سيفي بالوغى بالموتِ قائم
إنَّ شعبي كلَّهُ وطنٌ مقاوِم
ما ارتضى غيرَ المعزَّةِ والمكارم
ما ركنّا للمذلّةِ لم نساوِم
وانتصرنا رغمَ عُدوان المُهاجِم
فليرى الأحرارُ يا كلَّ العواصم
كيفَ يغدو المجدُ في الأوطانِ دائم
هذا العدو الغاشم الذي يناصره الغرب، ويصفق له العالم، ويشجعه الخبثاء الذين هم نصف الكون، ويمدّه بالعتاد والسلاح والذخائر والآليات، أقوى 8 دول وبالخفاء باقي الدول الغربية، والذي يمتلك أعلى درجات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتجسّس، هاجم لبنان تحديداً، وبالطبع غزة، بكلّ ما يمتلك وبكلّ ما شحذ وأخذ واستعان.
ولكنه هُزم وسيُهزم. وأول هزيمة وأعظمها هزيمة الأخلاق والدين والإنسانية والقيم والمبادئ والعدل والحق. فهم الذين هدموا البيوت، وقتلوا الآمنين والمدنيين والأطفال، وتهجّروا الناس من مواطنها، وجعلوا منهم مهجّرين ونازحين، فكيف سيسامحهم الله؟
مثلهم مثل إخوانهم النازحين من فلسطين وغزة وسورية وما مر به العراق سابقاً. القصة تتكرّر مع النازحين هؤلاء الناس تحمّلوا عقوداً من الصراع والعنف. في فلسطين وغزة، حيث يعيش الناس تحت الحصار والقصف، مما يجعل الحياة اليومية كابوساً مستمراً. في سورية، أجبرت الحرب الملايين على ترك من منازلهم، حيث يواجهون ظروفاً معيشية صعبة في مخيمات اللاجئين. في العراق سابقاً، عانى الناس من حروب متعددة من غزو وهجوم المنظمات الإرهابية، مما أدى إلى نزوح أعداد هائلة من السكان. هؤلاء النازحون كانوا يواجهون مشاكل مشابهة، مثل فقدان الأحباب، والهدم، والفقر، والاضطرابات النفسية التي تأتي مع النزوح المستمر وعدم الاستقرار.
هذه التجارب تركت آثاراً نفسية عميقة على الأطفال والكبار، حيث أصبح الحزن والقلق والخوف جزءاً من حياتهم اليومية. إلى جانب المشاكل النفسية، واجه النازحون مشاكل مالية كبيرة، حيث فقدوا مصادر رزقهم، وواجهوا صعوبات في إيجاد عمل جديد في مناطق اللجوء.
نزوح الأطفال هو أحد أكثر الجوانب المؤلمة لهذه الحكاية. هؤلاء الأطفال يكبرون في بيئات مليئة بالخوف وعدم الاستقرار. يعانون اضطرابات نفسية، مثل القلق والاكتئاب، ويواجهون صعوبات في التأقلم مع الحياة الجديدة. النزوح يعطل تعليمهم، حيث يفتقدون إلى المدارس المناسبة والبيئة المستقرة للدراسة. كما أنّ الأثر النفسي للنزوح ينعكس على تربيتهم وتطورهم العاطفي والاجتماعي، حيث يكبرون وهم يحملون تجارب مريرة لا يمكن نسيانها. هم لن ينسوا تلك المشاهد التي رسخت في ذاكرتهم، وتحوّلت إلى مشاعر غضب حيث كانوا وحدهم في الميدان.
هؤلاء الأطفال يعيشون في عالم مليء بالاضطراب، لكنهم متمسكون بالحياة، ويحبّون أرضهم رغم كلّ ما يحدث حولهم.
ومن المؤلم أيضاً أنّ الفتيات الصغيرات حملن معهن حيواناتهم الأليفة، التي عانت معهن من عذاب الترحال والنزوح. تلك الحيوانات التي نجت من الموت بالصواريخ والقذائف، ولكنها رافقت أصحابها في مسيرة التهجير والشتات، وقد رأيت في عيون تلك القطط والكلاب الأليفة ما تعجز الكلمات عن وصفه فكأنّ عيونها تصف حالنا جمعيها كعرب. أما وجوه الدمى التي تحتضنها الأطفال في مسيرة النزوح، ذات الوجوه الجميلة التي يكسوها الصفار، واستوطن عينيها الذهول، تعكس مشاعر الخوف والدهشة مما يجري حولهم.
من بين كلّ هذا الألم، يبقى الحزن على فقدان الأحباب هو الأكثر مرارة. النازحون فقدوا أقاربهم وأصدقاءهم في الحروب والنزاعات، وترك هذا الفقدان جروحاً عميقة في قلوبهم. الذكريات الجميلة التي تجمعهم مع أحبابهم تصبح ذكريات مؤلمة تذكرهم بما فقدوه.
إنه جرح عميق في جسد الإنسانية. وقصص من الألم والصمود، وحكايات من الفراق والحزن. لكن في كلّ هذه الحكايات، نجد أيضاً أمثلة على القوة والأمل. النازحون يعلموننا أنّ الإنسان يمكن أن يقاوم ويصمد حتى في أصعب الظروف. هم رمز للأمل الذي لا يموت، والعزيمة التي لا تنكسر.