هل هناك مستقبل لنظام إقليمي عربي؟!
![](https://www.al-binaa.com/wp-content/uploads/2024/08/جمال-زهران-نيو-اولى-720x470.jpg)
د. جمال زهران*
الصراع في الإقليم (عربياً وشرق أوسطياً)، وعلى الإقليم (الموقع والجيبوليتيكس)، بين أقطاره من ناحية، وبين الاستعماريين (القدامى والجدد)، هو صراع مستمر، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا يزال مستمراً في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
فمشكلة هذا الإقليم الجوهريّة هي الموقع باعتباره وسط العالم، وجسر الربط والتواصل بين الشرق والغرب. إلا أنّ مشكلته زادت وتعقدت بعد انفجار البترول والغاز (بعد ذلك)، في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين. فاختلطت الثروة مع الجيبوليتيكس (الجغرافية السياسية)، فازداد تكالب الاستعمار الأوروبيّ عليه، حتى تراجعت مراكز القوة في أوروبا، لتتحوّل إلى مركز العالم الجديد الذي يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية (وريثة الاستعمار القديم التقليدي)، الذي بادر إلى التمدّد والانتشار والهيمنة على هذا الإقليم.
واستمرّ القطب الجديد في وراثة الإقليم بكلّ متغيّراته، وفي المقدّمة ذلك الكيان الصهيونيّ، الذي سبق لبريطانيا أن زرعته في الإقليم منذ وعد بلفور في عام 1917م، ليبدأ الاستيطان وتجميع اليهود في فلسطين، بحجة تكوين وطن قومي لهم، إلى أن تمّ توظيف الظروف، واختيار اللحظة الزمنية المناسبة، بتمرير تقسيم فلسطين، وإعلان ميلاد دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو 1948م، بهدف السيطرة على الإقليم، لتحقيق هدفين هما: الحيلولة دون وحدة المنطقة العربية، والحيلولة دون تقدّم ونهضة هذا الإقليم، لتستمرّ الهيمنة الاستعماريّة. وقد كان ذلك عوضاً عن الاحتلال الاستعماري المباشر، باحتلال غير مباشر، بزرع هذا الكيان الصهيونيّ، لاستمرار النفوذ والهيمنة الاستعمارية الأميركية، بالتعاون والتنسيق مع القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة، التي دخلت مرحلة الأفول والتراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وارتضت أن تسلّم راية الاستعمار، لهذه الدولة الجديدة البازغة بقوّتها الكاملة وهي الولايات المتحدة الأميركية.
إذن… نحن أمام إقليم متكامل من حيث الموقع الجيبولوتيكي، ومن حيث الثروة خاصة النفطية، ومن ثم دار عليه الصراع بين الشرق (الاتحاد السوفياتي)، وبين الولايات المتحدة الأميركيّة، وتمّ زرع الصراع داخله، بزرع الكيان الصهيوني، في عام 1948م، وتمّ استخدام آليات الفتنة السياسية والطائفية، كأحد أهمّ الآليات للتفرقة بين أبناء الشعب العربي الواحد.
وفي الوقت الذي كانت فيه دول الجوار الجغرافي وخاصة إيران في الشرق، وتركيا (بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية التي شاخت وأضحت مسماة بـ «الرجل المريض»)، تسعيان إلى مرضاة أميركا (وريثة الاستعمار التقليديّ). فها هو شاه إيران كان بمثابة شرطي الخليج، حافظاً لمصالح أميركا والغرب عموماً، وكذلك تركيا. حيث تفجّرت الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني في فبراير 1979م، واستطاعت الصمود ما يربو عن (45) عاماً، وتحوّلت إلى نظام مؤسسي بمرجعية إسلامية، وأصبح لديها مشروع متكامل، للنهوض والتقدّم، حتى أضحى لها طموح بامتلاك مشروع نوويّ، قد يفضي إلى إنتاج القنبلة النووية، مثلما حدث في الهند وباكستان، وكوريا الشمالية، ووجدت في مشروع المقاومة لتحرير فلسطين، وتحرير بيت المقدس، سبيلاً لممارسة دور قياديّ في الإقليم، ليتأكّد حضور الإقليم الشرق أوسطيّ.
وعلى الجانب الآخر، فقد انهزمت تركيا القديمة تحت مشروع أردوغان، الذي ظهر ليقود حركة التغيير وتأسيس دولة مدنيّة على أنقاض الدولة العسكرية، حيث كان يقودها مجلس الأمن القومي العسكري في تركيا. وبعد تثبيت أركان دولة تركيا/ أردوغان الجديدة، بدأ الطموح خارج الدولة لممارسة الدور القيادي في الإقليم، ليتأكد أنّ الإقليم الشرق أوسطي، وهو الحاضر في إدارة الإقليم تعبيراً عن المصالح الذاتية، وبالوكالة عن المصالح الاستعمارية الأميركية.
إذن، خضع ولا يزال يخضع الإقليم لصراع خفي بين الشرق أوسطية، وبين «العروبيّة». وقد يتقدّم الإقليم الشرق أوسطي، عن الإقليم العروبيّ، بفعل التماسك في مرتكزات المشروع وأهدافه، في كلّ من إيران، وتركيا، على حين ـ وبالمقارنة ـ أنّ الإقليم العروبي، يفتقر إلى التماسك ـ رغم التجانس ـ وإلى وحدة القرار، ووحدة الهدف، ووحدة الحركة، والأغلب لفقدان الدولة القلب في هذا النظام العروبي التي تستطيع تجميع الصف العربي. ومن ثم، فنحن أمام مشهد يتسم بالتناقض، في هذا الإقليم. فعلى حين يتسم الإقليم الشرق أوسطي بالحضور وبالقوة في الأداء، وبالوضوح في ممارسة الدور الإقليمي، وبالتنسيق مع قوى دولية شرقاً أو غرباً، إلا أنّ الإقليم العروبي يتسم بالتشتت والضعف، وانعدام الدولة المركز خاصة بعد عقد مصر لاتفاقيات كامب ديفيد وما بعدها (1977 – 1978 – 1979)، الأمر الذي أدّى إلى فقدان مصر دورها القيادي المؤثر. ومن حسن المقادير، أنّ غياب مصر، ابتداءً من السبعينيات، تمّت الاستعاضة عنه بميلاد الثورة الإيرانية في فبراير 1979م، فأحدث توازناً في الإقليم ضدّ أميركا والاستعمار الجديد، وأفقدَ أميركا الهيمنة الكاملة على الإقليم.
وعلى حين، فإنّ إيران، الدولة الشرق أوسطية، تدعم المقاومة الفلسطينية، وداعمة بشكل كامل للدولة الفلسطينية، وأنهت الوجود الصهيوني في أرض إيران، واستبدلت السفارة الصهيونية بالسفارة الفلسطينية، حيث ولدت أول سفارة رسمية لفلسطين خارج الحدود العربية، نجد تركيا الداعمة للكيان الصهيونيّ، وهي جزء من حلف الأطلنطي، وتسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي، وحتى بعد «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023م، كان خطابها داعماً للمقاومة، على حين أفعال أردوغان في طريق دعم الكيان الصهيوني، وهو تناقض يلمسه كلّ محلل بسيط. في الوقت ذاته يتسم النظام العروبي، شكلاً، بهذا التناقض بين الفكر والممارسة (التظاهر بدعم القضية الفلسطينية وقوى المقاومة، بينما الفعل والممارسة في واد آخر! ولذلك فإنّ النصر في جانب النظام الشرق أوسطي، بدرجة إيجابية في الموقف الإيراني (فكراً وممارسة)، وبدرجة سلبية في الموقف التركي (تناقض بين الفكر والخطاب وبين الممارسة)، على ضوء الموقف من القضيّة الفلسطينية والمقاومة ومحورها.
كما أنّ النتن/ياهو، رئيس عصابة الكيان الصهيوني، الذي دمّر مقدرات الدولة السورية العسكرية، وبنسبة 80%، وإلقاء ما يقرب من (2000) قنبلة في ثلاثة أيام، ولا تزال الغارات التي وصلت إلى نحو (500) غارة، مستمرة، يؤكد أنّ تحالف الكيان مع تركيا، هو الأمر الكاشف لهيمنة الشرق أوسطية، على حساب «العروبية»!
فسقوط سورية، خصماً من العروبية، وخصماً من محور المقاومة بقيادة إيران، وفشلاً مدوّياً لما يُسمّى بالنظام الإقليمي العربي، الذي أثبت عجزه عن إنقاذ مكوّناته أكثر من مرة آخرها في سورية، ومن قبل في العراق والاحتلال الأميركي المباشر في عام 2003م، ومن بعده أفكار «الفوضى الخلاقة»، الأميركيّة، التي أفضت إلى تدمير ليبيا، وتدمير السودان، وتدمير اليمن. إلا أنّ رهاني، هو محور المقاومة، بإعادة ضخ الدم في شرايينه، وإعادة التنظيم والفعالية، ورهاني أيضاً على الشعب العربي في أقطار عربيّة عديدة، في مقدمتها سورية قلب العروبة النابض.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية