أولى

الإحباط غير المبرّر…

 

بالنسبة لسورية… من المبكر إطلاق استنتاجات تستند أكثر إلى الرغبات والتمنيّات مما تستند إلى وقائع التاريخ والجغرافيا وموازين القوّة

هل تستطيع الدول العربية المجاورة تجنّب ارتدادات ما حصل في سورية على أمنها القومي خاصة أنّ الكيان الصهيوني لم يخف أطماعه فيها؟

 

 زياد حافظ*

 

الإحباط الذي أصاب الكثيرين من الملتزمين بالقضية العربية الكبرى فلسطين وخيار المقاومة غير مبرّر بعد أحداث سورية. فالتاريخ والجغرافيا يمنعان ذلك الإحباط. وكذلك الأمر بالنسبة لموازين القوّة إقليمياً ودولياً. ففيما يتعلّق بالتاريخ نذكّرهم بأنّ الأمة مرّت بأحداث أكثر قساوة من أحداث سورية لكنها لم تستطع القضاء على القضية. فما هي تلك المحن التي مرّت بها الامة؟
أولاً: هناك الانفصال بين سورية ومصر في أيلول 1961. القضاء على أوّل انجاز لتجربة وحدوية بعد سقوط السلطنة العثمانية كان كارثة لجيل من العروبيين، ونحن منهم، كان نقطة انطلاق لمنع أيّ مشروع نهضة عربية لأنه يهدّد الكيان الصهيوني وما يمثّله من مصالح الغرب المستعمر. لكن الانفصال لم يقضِ على فكرة الوحدة التي ما زالت مستمرّة حتى الساعة والتي تتحقق يوماً بعد يوم على صعيد الشعوب العربية التي تتوحّد حول قضية فلسطين، وذلك رغم مشاريع التطبيع مع الكيان، وخاصة بعد إنجازات «طوفان الأقصى» التي لن تستطيع أحداث سورية محوها أو حتى تخفيض نتائجها على الكيان والإقليم.
ثانياً: نكسة حزيران 1967 حيث هُزمت ثلاث جيوش عربية في ستّة أيام على يد الكيان الصهيوني. تحرّكات الجماهير العربية في 8 و9 حزيران/ يونيو جدّدت الثقة في قيادة الزعيم الراحل الخالد الذكر جمال عبد الناصر. فكانت مرحلة محو آثار العدوان وإعادة بناء قدرات القوّات المسلّحة فكانت حرب الاستنزاف على القنال وانتصار العبور في 1973.
ثالثاً: خروج مصر من الصراع العربي الصهيوني بعد اتفاقات الكيلو 101 في 1973 والتي أوْصلت إلى اتفاقات كامب دافيد المشؤومة كانت ضربة شبه قاضية للمشروع العربي وقضية فلسطين تلتها الحرب الأهلية في لبنان. لكن لم تقض على قضية فلسطين.
رابعاً، الحرب الأهلية في لبنان وخروج المقاومة الفلسطينية منه بعد احتلال الكيان الصهيوني لأجزاء كبيرة من لبنان شكّلت نكسة للقضية الفلسطينية لكنها ولّدت مقاومة طردت الكيان من لبنان دون قيد أو شرط.
خامساً: احتلال الكيان الصهيوني للبنان في صيف 1982 ودخوله لعاصمة عربية على الدبّابات وما تلا ذلك من فرض رئيسين على لبنان وفرض اتفاق الإذعان المعروف باتفاق 17 أيار 1983 شكّل نموذجاً لخارطة سياسية في غرب آسيا مهّدت لاستهداف دول المنطقة. لكن هذا الاحتلال دُحر بفعل المقاومة في بيروت ثم في الجبل ثم في الجنوب دون قيد ولا شرط، وأُرسلَ اتفاّق الذلّ والإذعان إلى مزبلة التاريخ من قبل نفس المجلس النيابي الذي وافق سابقاً عليه.
سادساً: العشرية السوداء التي مرّت بها الجزائر في التسعينات من القرن الماضي كادت تطيح بقاعدة لحركات التحرّر العربية والعالمية بعد خروج مصر من الصراع العربي الصهيوني وتخضع بلد المليون ونصف شهيد للفوضى والاستعمار المقنّع الجديد إلاّ أنّ الجزائر تجاوزت تلك المحنة واستعادت عافيتها. وما زالت الجزائر تواجه محاولات التقسيم والتفتيت ترعاها المخابرات الفرنسية والصهيونية لكن من دون نجاح.
سابعاً: احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الأطلسي وتدمير قدراتها العسكرية كما يحصل اليوم في سورية ونهب ثرواتها النفطية حتى الساعة شكّل تنفيذاً لمشروع إعادة رسم خارطة المنطقة لصالح الكيان الصهيوني والمصالح الغربية. إلاّ أنّ الاحتلال نتج عنه مقاومة أرغمته على الخروج في بداية 2011 وإنْ عاد بعد بشكل محدود نسبياً بسبب هجمات جماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش التي موّلها ومكّنها لتبرير بقائه في العراق. لكن اليوم رغم كلّ ما يحصل فإنّ خروج تلك القوّات أصبح مسألة وقت وليس مسألة إذا. كما أنّ هجوم جماعات التعصّب والغلوّ والتوحش المموّلة والمدعومة أميركياً ولّدت مقاومة لها أيّ الحشد الشعبي الذي أصبح يهدّد بشكل مباشر كلّ من الوجود الأميركي في العراق وسورية والجماعات التابعة له وإلى حدّ ما الكيان الصهيوني.
ثامناً، أما في سورية فحاولت الدولة المنتدبة فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى إنشاء ثلاث دويلات ولم تفلح علماً أنّ موازين القوّة الإقليمية والدولية آنذاك كانت لصالح الاستعمار الغربي. فالمقاومة الوطنية في حلب وحماة ودمشق وجبل العرب على سبيل المثال أسقطت مشروع تقسيم سورية الذي انتزع منها الاستعمار الفرنسي أربعة أقضية وضمّها إلى لبنان وسلّم سنجق اسكندرون للدولة التركية. وتاريخ سورية بعد الحرب العالمية الثانية يدلّ على أنه من الصعب التحكّم بسورية من قبل الدول الغربية. فمسلسل الانقلابات الأميركية والبريطانية استمرّ حتى قيام الوحدة مع مصر فكانت الجمهورية العربية المتحدة. وبعد الانفصال لم يستقرّ الوضع في سورية حتى 1970. والنظام في سورية اكتسب شرعيته من خلال حرب تشرين 1973 ومحاولات تقويضه لم تتوقف. فالمؤامرات الغربية على سورية لم تهدأ وسورية كانت هدفاً للعقوبات الغربية وخاصة الأميركية منذ أواخر الثمانينات. والتوازن الاستراتيجي الذي أوْجدته في المنطقة عبر التحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران كان مستهدفاً من الغرب. والحرب الكونية التي فُرضت على سورية منذ 2011 تدلّ على أنه ليس من السهل التحكّم بسورية وإنْ كان الفصل الأخير إسقاط النظام الذي أمّن استقراراً لسورية لمدة خمسة عقود تقريباً.
عدم الاستقرار في سورية في الأربعينات والخمسينات حتى 1970 يعود لمحاولات تقويض هوية سورية العربية وإدخالها قسراً في معسكر الصهيوغربي. فالاستقرار الذي استمرّ حتى مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة يعود إلى تجسيد سورية لهويتها العربية والتزامها بخيار المقاومة ضدّ الكيان رغم المحاولات المتكرّرة لاستمالة النظام عبر الترغيب والترهيب للالتحاق بركاب كامب دافيد ووادي عربة. هذا لا يعني أنّ النظام لم يرتكب أخطاء بحقّ السوريين إلاّ أنّ الالتصاق بالهوية العربية الملتزمة بقضية فلسطين كانت مصدراً أساسياً لشرعية النظام.
هذا في التاريخ. أما في الجغرافيا فالحديث عن تقسيم سورية إلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية عليه أن يجيب على الأسئلة التالية:
أولاً: ما هي مقوّمات إقامة تلك الدويلات؟ هل المساحة الجغرافية لتلك الدويلات تسمح لها باستقلالية اقتصادية وسياسية؟ والمقصود بالجغرافيا ليس فقط المساحة، بل أيضاً السكّان والبنية السكّانية ونموّها. كما أيضاً ليس لكلّ الدويلات المرتقبة إطلالات على البحر للتواصل مع الخارج. فمعظمها دول محاصرة في بيئة جغرافية قد لا تكون مساندة لها. فمن تداعيات تلك التقسيمات ازدياد صعوبة تأمين خط الغاز المزعوم من قطر إلى البحر المتوسط عبر بيئة جغرافية غير مستقرة تجعل حماية الخط أمراً صعباً بسبب التناقضات بين الدويلات. فرشوة قيادات الدويلات لا تعني بالضرورة إمكانية تأمين حماية ذلك الخط المكشوف في البادية السورية. من جهة أخرى، كيف سيتمّ تسويق النفط السوري المحتلّ من قبل الولايات المتحدة ومن جماعة قسد المتناقضة مع تركيا؟ ما كان ممكناً من قبل سقوط النظام قد لا يكون ممكناً لأنّ ذلك النفط قد يكون محطة خلاف بين الدويلات نفسها. وإمكانية الوصول إلى التفاهم بينها يتطلّب جهوداً قد لا تكون متوفرة عند الأطراف الإقليمية والدولية.
ثانياً: ما هي مقوّمات استدامة أيّ بقاء تلك الدويلات في عصر التكتلاّت الاقتصادية الكبيرة؟ وماذا تملك تلك الدويلات من إمكانيات لإطعام سكّانها وتوفير استثمارات تتطلّب سوقاً أوسع بكثير من حجمها الجغرافي خاصة أنّ تلك الدويلات مبنية على الخصومة بينها؟ وهل يمكن استبعاد العبء الاقتصادي على كلّ من «استفاد» من إسقاط النظام، أيّ تركيا بالمرتبة الأولى؟
ثالثاً: ما هي قدرات تلك الدويلات على حماية نفسها أولاً من تقلّبات داخلية وثانية من مطامع خارجية؟ فأطماع كلّ من تركيا والكيان الصهيوني بالأرض السورية لن يوقفها قدرات تلك الدويلات؟
رابعاً: من هي القوى أو الدول التي ستتحمّل مسؤولية حماية تلك الدويلات سواء على الصعيد العسكري والأمني أو على الصعيد الاقتصادي؟ فالغرب مفلس وغارق في مشاكله الداخلية كما سنعرضها لاحقاً والدول الإقليمية الراعية لتقسيم سورية متباينة في مواردها الاقتصادية والمالية ما يجعل استدامة دعم تلك الدويلات أمراً يستوجب نقاشاً.
خامساً: هل أنظمة الحكم المرتقبة لتلك الدويلات تستطيع أن تقارب كافة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية كقضايا التربية والصحة في حال شحّ الموارد؟ وهل يمكن الرهان على «تعاون» في ما بينها وهي على تناقض حادّ في بنيتها الفكرية والعقائدية؟ فتركيبة السلطة الجديدة تشير إلى تناقضات جوهرية بينها أكثر مما يمكن أن يجمعها كما أنها لا تملك رؤية مشتركة حول مستقبل سورية.
هذه بعض الأسئلة التي يجب التوقّف عندها عند مقاربة مشاريع تقسيم سورية. فمحصّلة جميع هذه المشاريع هي عدم الاستقرار والفوضى. ولكن هل الفوضى ممكنة دون أيّ ردّ فعل إقليمي ودولي؟ فهل تستطيع الدول الغربية تحمّل موجة جديدة من الهجرة من سورية وربما من عدد من الدول العربية التي لا تستطيع تحمّل الأوضاع الناتجة عن الفوضى؟ وهل تستطيع الدول العربية المجاورة تجنّب ارتدادات ما حصل في سورية على أمنها القومي خاصة أنّ الكيان الصهيوني لم يخف أطماعه فيها؟
هناك من يسوّق النظرية أنّ الفوضى هي الهدف لكلّ من الولايات المتحدة والغرب أجمالاً وخاصة للكيان الصهيوني. هذا يدلّ على أنّ مفهوم الأمن منقوص عند من يروّج لتلك النظرية. فالفعل يقابله ردّ الفعل لأنّ هذه هي سنّة الحياة. ولا يستطيع أحد أن يتحكّم بإيقاع حيثيات الفوضى في منطقة في غاية الحساسية والتجاذبات التي ستسعر عدم الاستقرار الذي سيرتدّ على الجميع. فعلى سبيل المثال، كيف ستكون ارتدادات المسألة الكردية على كلّ من تركيا والعراق والجمهورية الإسلامية؟ وهل بإمكان الكيان الصهيوني لما شهدنا من هشاشة وضعه العسكري في كلّ من غزّة ولبنان أن يمسك بزمام الأمور؟ القدرة على القتل والتخريب لا تعني بالضرورة القدرة على التحكّم في مسار الأمور. استهداف قيادات المقاومة في لبنان وفي غزّة لم يؤدّ إلى إيقاف مسار وتدمير قدرات المقاومة.
هناك من سيسارع إلى ترويج نظرية إضعاف محور المقاومة وخاصة الجمهورية الإسلامية في إيران عبر «تراجع» حضورها ونفوذها في المنطقة وعبر «قطع» خطوط الإمداد العسكري بينها وبين المقاومة في لبنان. هنا نسأل كيف استطاعت الجمهورية الإسلامية في إيران الإمداد بالسلاح والذخيرة لحركة حماس في غزّة المحاصرة؟ أما في ما يتعلّق بحزب الله والمقاومة في لبنان ألم يشر شهيد الأمة السيد حسن نصر الله إلى اكتمال جهوزية المقاومة واعتمادها على قدراتها الذاتية وذلك في أكثر من مناسبة؟ ومن يستطيع أن يقول إنّ إمكانية إيصال الأسلحة والذخيرة إلى المقاومة في منطقة تاريخها حافل بالتهريب ويمتدّ على مدار مئات إنْ لم تكن آلاف السنين؟ نعم، قد تكون هناك بعض الصعوبات في تحقيق ذلك، ولكن ليست لا من بعيد ولا من قريب بمرتبة الاستحالة أو الاستعصاء. القدرات الذاتية هي الأساس والإمداد هو المزيد.
أما على صعيد موازين القوة في الإقليم وفي العالم فيجب التوقّف عند التطوّرات الحاصلة بين المحورين المتحاربين أيّ محور تقوده الكتلة الأوراسية للجنوب الإجمالي والمحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. فموازين القوّة بين المحورين ليست لصالح الغرب سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي أو على الصعيد القيمي والأخلاقي. وسقوط النظام في سورية لا يرتقي إلى مستوى تحوّل استراتيجي يضعف محور الكتلة الأوراسية ولا يقوّي المحور الغربي. فالتحوّلات الحاصلة في سورية هي تحوّلات تدفع نحو الفوضى وعدم الاستقرار، ولكنها لن تأتي بمردود إيجابي لصالح القوى الراعية لتغيير النظام. فما هو وضع اللاعبين الأساسيين في المشهد السوري على ضوء موازين القوّة الإقليمية والدولية؟
أولاً: بالنسبة لرأس الهرم في التحالف الصهيوأميركي فإنّ الولايات المتحدة تمرّ بتحوّلات داخلية خطيرة. ففوز ترامب بولاية ثانية يمهّد لمشروع إعادة النظر في الدولة العميقة. والدولة العميقة هي مجموعة مكوّنة من المجمع العسكري الصناعي والأمني، والاستخبارات، والإعلام، والقطاع المالي، ومجتمع مراكز الأبحاث والمجمع الجامعي. لكن ما يرمي إليه ترامب هو إعادة النظر في المؤسسات الأمنية والاستخبارية وحجم المؤسسات والوكالات الاتحادية. هذه معركة صعبة لا أحد يستطيع أن يتكهّن بنتائجها. فالمجتمع الأمني والاستخباري يملك من وسائل إذا ما لجأت إليها قيادته ستؤدّي إلى صدام عنيف بين الرئيس المنتخب وتلك الأجهزة. ليس هدفنا مقاربة ذلك الموضوع إلا الإشارة أنّ ترامب سينكب على معالجة الوضع الداخلي بما فيه مواجهة الدولة العميقة. هذا يعني أنّ اهتمامه بالشأن الخارجي سيكون محدوداً نسبياً إذا ما سمحت له الظروف. فهو لا يريد توريط الولايات المتحدة في مواجهات عسكرية جديدة غير أنّ الوضع المتفجّر في غرب آسيا وخاصة بعد التحوّلات في سورية قد يفرض عليه التدخّل بشكل مباشر لكبح محاولات نتنياهو لتوسيع رقعة المواجهة وخاصة مع الجمهورية الإسلامية في إيران. ما نريد قوله إنه ليس من المؤكّد أنّ الرئيس الأميركي سيعطي تفويضاً مفتوحاً لنتنياهو لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى توريط الولايات المتحدة في مواجهات عسكرية مع كلّ من إيران وربما روسيا في غرب آسيا أو في شرق أوروبا ألاّ أنّ الجهوزية العسكرية الأميركية غير متوفرة كما أنّ القدرات العسكرية الأميركية في حروب القرن الحادي والعشرين لا تسمح لها بخوض حروب طويلة المدى. كما أنّ الوضع الاقتصادي والمزاج السياسي الداخلي لا يؤهّلها لمقامرات عسكرية جديدة غير محسوبة النتائج.
إضافة الى المواجهة مع بعض مكوّنات الدولة العميقة فإنّ الرئيس المنتخب يواجه ملفّات اقتصادية واجتماعية تقسم المجتمع الأميركي وقد تهدّد تماسكه. فقضية الهجرة الوافدة غير الشرعية وقضية الإجهاض وقضايا الاقتصاد الافتراضي وما يهدف إليه الرئيس المنتخب من إعادة توطين القاعدة الصناعية إلى داخل الولايات المتحدة، وقضايا الدين العام والخاص الذي تجاوز السبعين تريليون دولار، وهشاشة الوضع المالي في الولايات المتحدة المعرّضة إلى كارثة مالية تفوق ما حصل في 2008 بأضعاف ودون حضور الصين ودول الجزيرة العربية للإنقاذ، فجميع هذه الملفّات ستستنزف الرأس المال السياسي الذي راكمه ودون أي ضمانة لنجاح خطّته الاقتصادية.
فالولايات قد تكون مقبلة على موجة من الاضطرابات تسرّع في الانكفاء عن الخارج بشكل ملموس.
ثانياً: الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة سياسية وعسكرية واقتصادية قد تؤدّي إلى تفكك المنظومة بسبب الرهان الخاطئ على أوكرانيا وأضعاف روسيا. فالاتحاد الأوروبي، وهو امتداد لمنظمة الحلف الأطلسي، يُمنى بهزيمة استراتيجية نكراء ومذلّة في شرق أوروبا. فتدهور الوضع الاقتصاد في الدول الوازنة داخل الاتحاد الأوروبي يرافقه أزمة سياسية نشهدها في كلّ من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة. وسياسة الهروب إلى الأمام في التصعيد في أوكرانيا ضدّ روسيا يصطدم بوقائع الميدان وتوجّه الرئيس الأميركي المنتخب إلى إقفال الملف في أوكرانيا والقبول بالأمر الواقع. يحاول الاتحاد الأوروبي أن يعوّض عن خسارته في شرق أوروبا عبر إنجاز ما في غرب آسيا كفرض على الهيئة الحاكمة في دمشق شرط إغلاق القواعد الروسية في كلّ من اللاذقية وطرطوس. في المقابل لا يعرض إلاّ تخفيف العقوبات على سورية. فكيف سيستطيع إقناع الحكم الجديد في سورية بإخراج روسيا من سورية؟
ثالثاً: يتمّ ترويج أن ّالمنتصر الأكبر هو تركيا بسبب موقعها كعرّاب للمجموعة الحاكمة الجديدة. وقد استفاد من انهيار الجيش العربي السورية للتمدّد في شمال سورية والسيطرة على حلب واعتبارها «عادت» إلى تركيا. لكن المشكلة التي تواجه تركيا هي المسألة الكردية في سورية وامتداداتها إلى الداخل التركي. فمقاتلة جماعة «قسد» المدعومة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية تتقاتل مع «هيئة تحرير الشام» المدعومة من البنتاغون والمخابرات المركزية الأميركية والبريطانية. فهل سيذهب الرئيس التركي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة التي حتى الساعة لن تتخلّى عن الأكراد ألاّ إنْ حصلت على مكاسب من تركيا؟ وهل تستطيع تركيا دفع مع تريده الولايات المتحدة وتطيح بكافة المكاسب التي حققّتها بدخولها لمجموعة «بريكس» والعلاقات المميّزة مع كلّ من روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران لإرضاء الولايات المتحدة؟
كما أنّ الوضع الداخلي في تركيا قد يتأثر من ارتدادات ما حصل في سورية خاصة على الصعيد الأمني وربما الاقتصادي إذا تدهورت العلاقات مع كلّ من روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران. فمن أنقذ الرئيس التركي أردوغان من الانقلاب الأميركي في 2016 هو روسيا. فهل هو بمأمن من غدر الولايات المتحدة؟ وهل روسيا ستحميه بعد الطعنات في الظهر في الملف السوري؟ وهل سيستطيع استمالة السوريين لحكمه بعد السكوت على التوغّل الصهيوني في سورية وإقباله على تتريك المناطق في شمال سورية؟ من جهة أخرى فإنّ النفوذ المتصاعد لتركيا في سورية يضعها على حدود الكيان بشكل مباشر سياسيا بينما بادية سورية تفصله جغرافيا عن فلسطين. فكيف سيبرّر سكوته عن الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان في غزة وفلسطين المحتلّة دون أن يواجه المزيد من الارتدادات الداخلية؟ وهناك العديد من الأسئلة والتحدّيات التي ستواجه تركيا وقد تكون أكبر من طاقاتها على تحمّلها. في رأينا قد يكون أردوغان رابحاً بسقوط سورية، ولكن هذا «الانتصار» موقت بسبب ما ذكرناه وسيكون بطبيعة الحال أكثر كلفة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وربما عسكرياً عمّا لو تمّ التفاهم مع الرئيس السابق بشار الأسد.
رابعاً: يعتقد كثيرون أنّ الرابح الأكبر هو الكيان الصهيوني. هذا الرأي يحتاج إلى نقاش وخاصة الإجابة على عدّة أسئلة فرضتها المواجهة البرّية في كلّ من غزة ولبنان. السؤال الأساسي هو هل تمدّد الكيان في سورية دون أيّ مقاومة وبعد اختفاء الجيش العربي السوري يعوّض عن صورته المهتزة عسكرياً في كلّ من لبنان وغزّة؟ فحتّى هذه الساعة لم يستطع الكيان تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة وغير المعلنة في كلّ من غزّة ولبنان. فهل يستطيع نتنياهو تسويق ذلك كـ «انتصار»؟ أما الحالة العسكرية لكلّ من المقاومة في غزّة ولبنان فهي قادرة على استئناف القتال بالنسبة للمقاومة في لبنان والاستمرار في تكبيد الخسائر في غزة. فماذا يستطيع أن يروّج نتنياهو لجمهوره خاصة بعد استطلاعات الرأي العام الأخيرة التي تدلّ على إمكانية فقدانه حوالي 14 مقعد في الكنيست؟
من جهة أخرى عند إعداد هذا المقال هناك أنباء عن تظاهرات احتجاجية لاحتلال الكيان لمناطق سورية وذلك في درعا وما لها من دلالات في الصراع الداخلي في سورية. هذه الاحتجاجات تزامنت مع زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف لدمشق للتفاوض مع منظمة ما زالت تعتبرها إرهابية ولم تتطرّق إلى الاحتلال الصهيوني لمناطق سورية. فهذه الاحتجاجات قد تكون باكورة حركة شعبية مقاومة للاحتلال فكيف سيتعامل معها الاحتلال والنظام الجديد في دمشق؟ كما كيف ستتعامل معها الولايات المتحدة؟
ولا بدّ من التذكير بهشاشة الوضع الداخلي في الكيان سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي، وخاصة أنّ حركة الهجرة من الكيان في حال تصاعد. أضف إلى ذلك الملاحقات الداخلية القانونية لشخص نتنياهو «المنتصر» بتهم متعدّدة للفساد قد تدخله السجن وتنهى حياته السياسية.
في خلاصة الأمر لا نعتقد أنّ السرديات التي تتكلّم عن تفكّك محور المقاومة بسبب «خروج» سورية من الصراع في المرحلة الحاضرة سرديات دقيقة، بل هي خاطئة. ولا نوافق على الكلام الذي يتكلّم عن «هزيمة المقاومة» بل العكس. ولا يمكن القول إنّ كلّ من روسيا والجمهورية الإسلامية مُنيتا بهزيمة استراتيجية، بل ربما خسارة تكتيكية ضمن معادلة استراتيجية لم تتأثر بها. ولا نعتبر أنّ الولايات المتحدة «انتصرت» لتستطيع إعادة رسم خارطة غرب آسيا وفقاً لمصالحها. ولا نعتقد أنّ الكيان باستطاعته أن يخفي تداعيات إخفاقاته في كلّ من غزّة ولبنان. ولا يمكن القول إنّ المحور المناهض للهيمنة الأميركية قد هُزم. ولا يمكن القول إنّ المحور الغربي أوقف أو حسّن وضعه التراجعي.
أما بالنسبة لسورية، فإنه من المبكر إطلاق استنتاجات تستند أكثر إلى الرغبات والتمنيّات مما تستند إلى وقائع التاريخ والجغرافيا وموازين القوّة. فما حصل فصلٌ واحد فقط طابعه انتكاسة في مشروع نهضوي عربي يرتكز إلى خيار المقاومة ليس فقط في فلسطين، بل في مواجهة كلّ أنواع الهيمنة والاستعمار القديم أو الجديد. أما الظرف الزمني لتحقيق ذلك المشروع فما زال زمام المبادرة بيد المقاومة رغم الانتكاسة الكبيرة لأنّ الكيان وحلفاءه لا يملكون لا الساعة ولا الوقت.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى