لبنان: الرئيس مفتاح لا يفتح باب الإنقاذ إلاّ بحكومة إصلاحيّة
د. عصام نعمان*
بعد سنتين وأكثر من شهرين استيقظ لبنان اللادولة من سباته، أو هكذا يظّنّ المتفائلون. فقد رضخت غالبية ممثلي أحزاب وحركات وتكتلات ومستقلّين في مجلس النواب لضغوطٍ شديدة مارسها سفراء وموفدو الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر فكان أن انتخبوا قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية.
ما كان الأمر ليجري على هذا النحو لو أنّ القيادات السياسية المسيحية داخل مجلس النواب وخارجه نجحت بالتوافق في ما بينها على شخصية مدنية مارونية لملء سدة الرئاسة الشاغرة وفق نظام المحاصصة الطائفية الذي يقضي بأن تكون رئاسة الجمهورية لمسيحي ماروني، ورئاسة مجلس النواب لمسلم شيعي، ورئاسة مجلس الوزراء لمسلم سنّي، لكنها لم تنجح فكان أن رضخت جميعها لـِ “توصية” الدول الخمس السالفة الذكر بأن يكون العماد عون الرئيس المنشود.
جديرٌ بالذكر أنّ قائد الجيش هو أعلى موظف من الفئة الأولى يملك بحكم منصبه سلطة آمرة على أكبر مجموعة من اللبنانيين المنظّمين بل المنصهرين ضباطاً وجنوداً في إطار عسكريّ متماسك عابر للطوائف، في حين أنّ لكلٍّ من الأحزاب والتكتلات السياسية الممثلة في مجلس النواب لوناً طائفياً غالباً.
هذه الصفة الجامعة للجيش اللبناني وقائده لم تكن وحدها كافية للتوافق على شخصه لملء سدة الرئاسة. ذلك لأنّ أيّاً من الأحزاب والتكتلات السياسية في مجلس النواب لا يملك الأكثرية اللازمة لانتخاب مرشحه الأمر الذي استوجب إجراء مفاوضات ومساومات طويلة ومضنية في ما بينها بغية التوصل الى توافق على اعتماد العماد عون مرشحاً مقبولاً من غالبية النواب. وفي هذا السياق تبيّن أنّ للتكتل الثنائي المكوّن من حركة أمل وحزب الله وحلفائهما حجماً تمثيلياً في مجلس النواب لا يقلّ عن 35 نائباً من مجموع أعضائه البالغ 128 الأمر الذي يستحيل معه انتخاب العماد عون أو غيره رئيساً من دون تأييده الحاسم له. هكذا يكون العماد عون خامس قائد ٍللجيش يجري التفاهم عليه ليكون رئيساً للجمهورية منذ استقلال لبنان سنة 1943.
هل تنتهي بانتخاب الرئيس الجديد أزمة اللبنانيين العاجزين دائماً عن حكم أنفسهم؟
الحقيقة أنّ الأزمات والتحديات والمشاكل التي يواجهها لبنان اللادولة كثيرة ومعقدة. لعلّ الإصلاحات والمعالجات التي ذكرها الرئيس عون في خطاب القَسَم بمجلس النواب بعد انتخابه هي عناوين لكلّ الأزمات والمشاكل التي يعانيها لبنان في الوقت الحاضر. مع ذلك، ابتهج اللبنانيون كثيراً لحظةَ إعلان فوزه ربما لشعورهم العميق بالتعب والإرهاق نتيجةَ ما مرّوا به وما زالوا من نكبات ومآسٍ، ولإحساسهم أيضاً بأنّ الرئيس الجديد ليس من فئة السياسيين المحترفين الفاسدين وأنه جادّ في تحقيق ما تعهّد به من إصلاحات ومعالجات بدليل أنه سارع الى دعوة النواب الى استشارات مبكرة لتسمية المرشح المُراد تكليفه تأليف حكومة جديدة. غير أنّ معظم اللبنانيين لا يعرفون على الأرجح أنّ تسمية شخصية مقبولة ومقتدرة لتأليف الحكومة ليست كافية بحدِّ ذاتها لمباشرة حملة الإنقاذ والتغيير والإصلاح التي ينشدونها. ذلك أنّ الخلافات والاختلافات التي تعصف بالقوى السياسية والنواب تجعل من الصعوبة بمكان تفاهمهم على برنامج للأولويات الأكثر إلحاحاً وأهمية الذي ينشده الرئيس الجديد، كما يرغب الناس في أن تعتمده الحكومة الجديدة وتباشر في تنفيذه.
إزاء هذا الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي البالغ التعقيد والخطورة أرى أن يبادر الرئيس عون الطامح، على ما يبدو، الى أن يتصدّر حملة الإنقاذ والتغيير والإصلاح بالتفاهم مع رئيس الحكومة الجديدة على أن يخصّصا معاً نحو سنة، أقلّ أو أكثر، للإحاطة بكلّ القضايا والملفات المتعلّقة بالأزمات والمشاكل المستفحلة والمسؤولين عن التسبّب بها ومفاقمة أضرارها، والاتفاق على ما يتوجّب عمله لإيجاد حلولٍ ناجعة لها ولو بخطوطٍ عريضة، وأن يبادرا تالياً إلى حلً مجلس النواب وإجراء انتخابات عامة أملاً بانتخاب نواب جدد يعكسون بأشخاصهم وممارساتهم وبرامجهم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية حاجات الناس ومطالبهم وآمالهم في الإنقاذ والإصلاح والتغيير.
إنّ حكومةً إصلاحيّة تنتدب نفسها لمباشرة حملة الإنقاذ والتغيير والإصلاح وتحديد أسس إعادة بناء الدولة الغائبة أو المغيّبة، يقتضي أن تكون مؤلّفة من وزراء وطنيين من أهل الكفاية والاختصاص والمقدرة والخبرة من خارج المنظومة السياسية الحاكمة، وأن تركّز جهودها أولاً على قانون ديمقراطي للانتخابات يحقّق صحة التمثيل الشعبي وعدالته على أسسٍ مستمدة من وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من الدستور المعدّل سنة 1990 وذلك على النحو الآتي:
أ ـ إنشاء مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف “تنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية” (المادة 22 من الدستور).
ب ـ “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء” (المادة 27 من الدستور) ما يستوجب اعتماد نظام التمثيل النسبيّ وجعل لبنان كله دائرة انتخابية واحدة.
ج ـ “إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية” (المادة 95 من الدستور).
د ـ خفض سن الاقتراع الى الثامنة عشرة لإشراك أجيال الشباب في المسؤولية العامة والانتقال تدريجاً الى دولة المواطنة المدنية وحكم القانون.
تستطيع الحكومة بطبيعة الحال أن تقوم في الفترة السابقة لإجراء الانتخابات بمواجهة التحديات الماثلة كالاعتداءات الإسرائيلية على البلدات والقرى الحدودية الأمامية جنوبي نهر الليطاني (كان أخطرها الاعتداء الوحشي الأخير على بلدة طيردبا في قضاء صور حيث ارتقى 7 شهداء) كما تستطيع أن توفّر للناس ضرورات معيشتهم من غذاء ودواء وماء وكهرباء والمتطلبات الأولية اللازمة للبدء بإعمار البلدات والقرى المهدّمة بفعل العدوان الإسرائيلي. وغنّي عن البيان أنّ الحكومة الجديدة التي تعقب الانتخابات العامة سيكون في وسعها استكمال مسيرة الإنقاذ والتغيير والإصلاح.
بمثل هذه المقاربة الجادّة والجريئة يستطيع الرئيس الجديد والحكومة الجديدة أن يواجها معاً التحديات الخطيرة التي تُحدق بالبلاد والعباد وأن يبرهنا على أنّ عناوين الإصلاحات والمعالجات التي أوْردها الرئيس عون في خطاب القَسَم في مجلس النواب قابلة حقاً للتحقيق بلا إبطاء.
*نائب ووزير سابق
[email protected]