إقليم تحت التشكيل واستمرار المقاومة…
د. جمال زهران*
يُعتبر مفهوم «الإقليم»، أوسع من مفهوم «المنطقة»، بالمعنى الجيبوليتيكي، أيّ بمعنى الجغرافية السياسية، ولذلك فإنّ الإقليم يعني هنا، هو الرقعة الجغرافية الأوسع، بحيث يشمل المنطقة العربية ودول الجوار الجغرافي، وتتمثل في جمهورية إيران الإسلامية، والجمهورية التركية، وإثيوبيا في الجنوب العربي بأفريقيا. وقد تناول العديد من الباحثين في العلوم السياسية والاستراتيجية، دول الجوار الجغرافي للمنطقة العربية، للوقوف على أهدافها ومشروعاتها ونقاط التلاقي والتعارض وفقاً لمصالح ومقتضيات الأمن القومي لكل دولة من هذه الدول.
ومن ثم، فإنّ القول بأنّ الإقليم، بالمفهوم الأوسع، أصبح تحت التشكيل الجديد، بعد تسارع الأحداث فيه، منذ عملية «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر 2023م، وحتى الآن (بعد مرور أكثر من خمسة عشر شهراً). فالإقليم يشهد حالة مخاض شديدة، قد يتمخّض عنه إما انهيار كامل واستسلام للضغوط الاستعماريّة (أميركا وشقيقاها الاستعمار والصهيونية العالمية)، أو استمرار المقاومة وتصاعد محور المقاومة، أو مشهد ثالث حيث يتمّ تحييد كل الأطراف، بحيث يحول التدخل الخارجي، دون صعود فاعل عربي أو إقليمي قوي، مع استمرار الكيان الصهيوني هو الفاعل الرئيسيّ في الإقليم.
وقد سبق أن تناولت بالتحليل، في مقال سابق، أنّ الإقليم يتصارع بين المنطقة العربية، والمنطقة الشرق أوسطية حيث تندرج دول الجوار الجغرافي، وأنّ الملاحظ أنّ هناك تراجعاً للنظام الإقليمي العربي (وزناً وتأثيراً ومكانة)، لصالح النظام الشرق أوسطي.
وفي ضوء ما سبق يمكن أن نرصد ما يلي:
1 ـ أنّ المواجهة شاملة الآن، مع المشروع الاستعماري التوسعي، بقيادة أميركا بالأصالة، وبالتوابع مع الكيان الصهيوني (رأس الحربة والوسيلة)، ومع أوروبا الاستعماريّة برموزها الكبيرة ممثلة في (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا وإيطاليا). ومن ثم يخطئ مَن يتصوّر أننا بعد «طوفان الأقصى»، على وجه الخصوص، في مواجهة مع الكيان الصهيوني، وإلا لكانت هلكت بسرعة وانتهى وجودها، واستطاع النظام العربيّ أن ينتصر ويثبت وجوده، من خلال محور المقاومة. وهنا يُلاحَظ تسارع رؤساء الدول الخمس، لزيارة الكيان، وتأكيد الدعم المطلق، وإرسال رسالة للعالم كله بما فيه النظامان العربي والشرق أوسطي، أنه لا تنازل عن استمرار الكيان الصهيوني في المنطقة، بل ودعمه من أجل تحقيق النصر أياً كان ثمن التكلفة، وأنه غير مسموح بالهزيمة على الإطلاق، وهذه المرة بالذات. كما أنّ ما يُلاحَظ أيضاً: الدعم المادي والمعنوي الواسع من أميركا وأوروبا للكيان، ودعم عصابة النتن/ياهو المتطرفة، وإعلاء خطابها على خطاب الداعمين، حتى تبدو هذه العصابة وكأنها تحكم العالم، بينما في الحقيقة، فإنّ المشروع الأميركي الصهيوني الماسوني، العالمي، هو الذي يحكم ويدير ويخلق الأزمات في ضوء سيناريوات هذا المشروع.
2 ـ أنّ السيناريو السوري، بعد مقاومة اقتربت من 14 سنة، ابتداءً من مارس 2011م، ضدّ محاولات تفكيك الدولة السورية، دخل حيّز التنفيذ فور توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، والذي أعلنه الرئيس الأميركي (بايدن) من واشنطن وتحدّد الموعد: فجر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024م، متجاهلاً ألاعيب النتن/ياهو. ولو لاحظنا، فإنّ السيناريو السوري، دخل حيّز التنفيذ، بعد كلمة السر على لسان النتن/ياهو، بقوله «إنّ الرئيس السوري يلعب بالنار..»! ومن ثم فإنّ هذا السيناريو كان معداً سابقاً، وعلى حسب معلوماتي الخاصة المتاحة، بأن الإعداد والخطة تمّ وضعها على مدار السنوات الثلاث السابقة! ولم تكن وليدة اللحظة، كما يتصوّر البعض!
3 ـ أن الخطة المرتبة لتوسّع وتوسيع الكيان الصهيوني على حساب المنطقة العربية أساساً، قد أظهرها النتن/ياهو، في الكونغرس، وتحت قبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومؤخراً على لسان أفراد العصابة الحاكمة في الكيان الصهيونيّ، وفي الكنيست الصهيوني، ومن ثم أصبح التنفيذ واجباً بقوة وقهر أميركا الاستعمارية وتابعيها في أوروبا. فالبداية توقيف جبهة إسناد لبنان، والقضاء على سورية وإخراجها من محور المقاومة نهائياً وتدمير جيشها تماماً، وتهديد العراق، وتوقيفها كجبهة إسناد، وتهديد الأردن بالإزالة وتهجير شعب فلسطين في الضفة الغربية إليها، وتهديد السعودية، وتهديد مصر، وتنفيذ المشروع الصهيوني ومملكة بني صهيون من «النيل إلى الفرات»، حسبما هو مخطط!
إذن، نحن في مرحلة التنفيذ الفوريّ والإذعان والقهر للمشروع الصهيوني الكبير، فهل نحن جاهزون للمواجهة والمقاومة أم للخضوع والاستسلام؟!
4 ـ أنّ نشر الخرائط بالتوسّع والتوسيع للكيان الصهيوني، في هذه اللحظة التاريخية، كان بهدف تحقيق مكاسب وانتصارات وهميّة، لعصابة الحكم في الكيان الصهيوني، ولكن في الوقت نفسه، كان بهدف إخفاء الخسائر الحقيقية والهزيمة الكبيرة، والعجز الكامل للكيان الصهيوني عن تحقيق أي أهداف مما أعلنه النتن/ياهو. ومن ثم فإن الكيان وعصابة الحكم، في مأزق تاريخي، كان يتوجب القفز على هذه الهزيمة الشاملة، إلى محاولات تفكيك محور المقاومة، وجبهات الإسناد، الذي أحرز نتائج وانتصاراً ساحقاً على هذا العدو الصهيوني. أيّ أنّ ما حدث ويحدث الآن، هو محاولات إجهاض انتصارات محور المقاومة، ومن المستحيل تحقيق ذلك، لأنه محور قوي، والدليل، ظهور جبهة الإسناد والمواجهة في اليمن، التي تجاوزت الكيان الصهيوني، إلى مواجهة مباشرة مع أميركا وبريطانيا، وكلّ من يسير معهما! وتحتاج اليمن إلى تحليل مقبل.
5 ـ أنّ المطروح الآن، هو الوصول إلى مصر وجيشها، باعتباره الجيش المتبقي من الجيوش الكبرى الفاعلة، بعد أن تمّ تدمير الجيشين العراقي والسوري. ولذلك تمّ إشعال جميع الجبهات حول مصر، في ليبيا (الغرب)، والسودان (الجنوب)، وجيش الصهاينة على الحدود الشرقية، مع استمرار العدوان الصهيوني البربري على غزة، فضلاً عن أزمة المياه، بعد بناء السدّ الإثيوبي للتحكم في وصول المياه إلى مصر وشعبها!
وفي هذا السياق، فعلى ما يبدو أنّ العديد من النظم العربية الفاعلة والمرشحة لتداعيات وأهمّها مصر والسعودية والأردن والعراق، تبدو وكأنها في سبات، وأنّ الأمور الحادثة في الإقليم، لا تعنيها، رغم أنّ هذه الأمور تسير بوتيرة عالية، وعلى ما يبدو أيضاً أنّ ما يحدث لا يعنيها، ومن ثم فإن في هذا مكمن الخطورة. إلا أنّ محور المقاومة يعيد ترتيب أموره وأوراقه، بما يؤكد يقظة هذه المقاومة. أما عن كيفيّة المواجهة، في إقليم أصبح قيد التشكيل في ظلّ هذه المتغيّرات، فلهذا حديث مقبل…
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية