دراسات

الحرب على غزة والهجرة العكسية… أرقام وحقائق*

 

مقدمة

تعدّ الهجرة العكسية من الكيان المؤقت أشدّ الأخطار على الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني، حيث اعتمدت الحركة الصهيونية منذ بدايتها على تهجير اليهود إلى فلسطين وإنشاء المستوطنات الصهيونية وإحلال المهاجرين اليهود مكان الفلسطينيين في أرضهم، ومن ثم، كان بروز الهجرة العكسية وتخلي اليهود عن الحلم الصهيوني يمثل كابوساً لدعاة الصهيونية وزعمائها. وإذا كانت الصهيونية قد تبنّت الفكرة المسيحانية القديمة في صورتها العلمانية الجديدة لاستيطان فلسطين، «فإنّ هجرة اليهود من (إسرائيل) ما هي إلا كفر بهذه الفكرة ومبادئها». وتجلى ذلك في تصريحات سياسيين مثل يتسحاق لوفمان وهو من كبار الصحافيين وعضو حزب العمل الصهيوني حيث قال «هناك طريقة واحدة لرفع الروح المعنوية وإحكام قبضتنا على فلسطين، وهي الهجرة إليها، والدفع بمهاجرين جدد، وتهجير الشباب إليها».
وتمثل الهجرة العكسية الخطر الأكبر الذي يهدّد (إسرائيل) واستمرارية مشروعها الاستعماري منذ بدايتها، «فهي تسلب من الكيان الصهيوني أهمّ عنصر وهو القوة البشرية.
وهذا العنصر البشري اعتمدت الحركة عليه الصهيونية في عملية إحلال الشخصية الصهيونية مكان الشخصية الفلسطينية صاحبة الأرض، لذلك عبّرت المؤسسات والصحف الصهيونية وأشارت إلى ضرورة الانتباه إلى هذا الخطر.
وكانت لجنة العمال الصهيونية قد عقدت اجتماعاً في عام 1926، جاء فيه أنه «لكي نصبح الأغلبية؛ فإنّ الاستيطان يحتاج إلى ثلاثين إلى أربعين ألف مهاجر سنوياً في فترة من عشر إلى خمس عشرة سنة مقبلة في مقابل زيادة السكان الفلسطينيين في أرضهم والتي تبلغ من عشرين إلى ثلاثين ألف مواطنأ كلّ عام. وبذلك تصبح الموازنة الديموغرافية لصالح المستوطنين اليهود. فتنامي الهجرة العكسية من (إسرائيل) هو أشدّ الأخطار فتكاً. وقد أنصبّت جهود المؤسسات «الإسرائيلية» في الحفاظ على التفوّق الديموغرافي لليهود عن طريق جذب اليهود من الخارج لترجيح كفة العنصر الصهيوني على العنصر الفلسطيني. «فتكاثر الفلسطينيين في الداخل يعتبره الإسرائيليون مهدداً للصفة اليهودية للدولة وقد وصفهم بعض الإسرائيليين بأنهم سرطان في جسم الدولة وأنهم قنبلة موقوتة».
وما زالت الحركة الصهيونية تمارس سياستها في تنفيذ عمليات التهجير للفلسطينيين، لتحقيق التفوق الديموغرافي الإسرائيلي» في فلسطين التاريخية.
يشهد كيان الاحتلال منذ عملية طوفان الأقصى تصاعداً في موجات الهجرة العكسية بشكل كبير، حيث اختار عدد كبير من المستوطنين المغادرة والذهاب نحو الإستقرار في الولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية نتيجة التداعيات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها عملية طوفان الأقصى التي أحدثت زلزالاً عميقاً في البنية الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية داخل كيان الاحتلال الذي فشل في توفير الأمن للمستوطنين، وجذب آخرين للهجرة إلى فلسطين والاستقرار فيها والحصول على الجنسية (الإسرائيلية).
وكشفت عملية طوفان الأقصى وجبهات الإسناد خاصة من لبنان واليمن والعراق، تصاعداً ملحوظاً في أرقام الهجرة العكسية من كيان الاحتلال، حيث دفعت الهجمات الصاروخية المتكررة والمتواصلة «الإسرائيليين» للبحث عن ملاذ آمن خارج الكيان، وأصبحت الهجرة العكسية اليوم من أبرز التحديات التي تواجه الكيان منذ إنشائه في العام 1948، وتعتبر قبرص اليونانية والبرتغال وبولندا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الوجهة المفضلة للإسرائيليين بحثاً عن الأمن والأمان الذي يفشل كيان الاحتلال بتوفيره لهم وهم بالأساس يحملون جنسية مزدوجة تسهل لهم عملية الهجرة والإندماج.

موجات الهجرة العكسية عبر العقود

بدأت الهجرة العكسية منذ تأسيس الكيان بعد النكبة الفلسطينية، حيث تراوحت أعداد المغادرين بين 4 آلاف و20 ألف شخص سنوياً حتى ثمائينيات القرن الماضي.
شهدت موجات كبيرة من الهجرة العكسية بعد حرب أكتوبر- تشرين الأول 1973، وفي أعقاب العدوان على لبنان مطلع الثمانينيات.
من التسعينات، تجاوز عدد المغادرين من الكيان 500 ألف شخص، بينما يقدّر العدد الإجمالي للإسرائيليين الذين غادروا منذ تأسيس الكيان ولم يعودوا بأكثر من 690 ألفاً، وفق دائرة الإحصاء الرسمية.
في عام 2015، غادر نحو 16,700 مستوطن من الكيان الإسرانيلي، عاد منهم 8,500، وبحلول عام 2020، تجاوز عدد اليهود الذين غادروا الكيان 756 ألفاء بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتصاعد انعدام المساواة، والإحباط من تعثر عملية التسوية، فضلاً عن تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.

أرقام وحقائق

أظهرت بيانات رسمية أن معدل الهجرة العكسية من كيان الاحتلال تصاعد خلال عام 2024، وأنّ مجمل النمو السكاني تباطأ للمرة الأولى منذ عام 2020، في وقت يواصل فيه الكيان «الإسرائيلي» شنّ حرب الإبادة في قطاع غزة للشهر الـ15 على التوالي، وحسب أحدث البيانات التي نشرها المكتب المركزي الإسرانيلي للإحصاء فقد هاجر 82.7 ألف شخص إلى خارج الكيان في 2024، في حين عاد إليها 23.8 ألف من المقيمين بالخارج، في الوقت نفسه، وثق المكتب هجرة 32.8 ألف يهودي الى الكيان في 4، مقارنة بحوالي 48 ألفا في العام السابق.
وفي المجمل، أظهرت البيانات أنّ معدل النمو السكاني تباطأ من 1.6% في 2023 إلى 1.1% في 2024، وهي أول مرة يسجل فيها تباطؤ منذ 2020 خلال جانحة كوفيد 19 كورونا.
وقال المكتب المركزي للإحصاء إن «عدد سكان الكيان يقدّر بحوالي 10 ملايين و27 ألفاً، بينهم 7.7 ملايين يهودي و2.1 مليون عربي (الفلسطينيون في أراضي 1948) و216 ألف أجنبي.
تكشف هذه الأرقام مدى هشاشة بنية المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية من خلال عدم الانتماء لهذه الأرض إذا ما تمّت مقارنتها بأرقام الهجرة الفلسطينية سواء في أراضي عام 1948 أو الضفة الغربية أو حتى في قطاع غزة رغم حرب الإبادة الإسرائيلية الحاصلة، حيث يبرز إصرار الفلسطيني على البقاء في أرضه ورفضه المغادرة وهو الذي عايش آباءه وسمع منهم مرارة اللجوء عام 1948 وبالتالي يبرز فشل خطط الاحتلال بالتهجير الفلسطيني لينقلب إلى الهجرة اليهودية المعاكسة بمشهد واضح تعزز بعد عملية طوفان الأقصى.
ويبدو الآن أنّ متلازمة «الدولة اللقيطة» كما يرى كثير من متابعي ملف الهجرة الإسرائيلية المعاكسة تأبى أن تغادر مخيّلة القائمين على هذا الملف، وتؤكد تعششها بقوة ليس عندهم فقط بل تتجاوز ذلك إلى المجتمع الإسرائيلي ككلّ، وهي المتلازمة التي تؤكد حضورها في كلّ أزمة سياسية أو أمنية، والطامة الكبرى هنا كما يرى صانع القرار الإسرائيلي والقائم على هذا المجال بأنّ معظم هذه الهجرة المعاكسة تتمثل بفئة الشباب الذين يمثلون وقود الحرب الحالية في غزة في ظلّ تخلف الكثير منهم بالإلتحاق بالجيش وأزمة تجنيد الحريديم المتدينين والمدعومين من قوى التطرف الحكومي المصر على استمرار هذه الحرب حفاظاً على مكاسب سياسية خاصة كما يرى كثير من هؤلاء الشباب.
والتاريخ يقول إنّ الهجرة إلى الكيان إزدادت بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، لكن الهجرة العكسية ارتفعت بعد حرب أكتوبر 1973.
وبحسب الكاتب «الإسرائيلي» أموس عوز، في كتابه «في أرض إسرائيل»، فإنه «لكي ترتفع الهجرة إلى (إسرائيل) يجب أنم يحدث شيء هام يوحد اليهود، إما انتصار عسكري مثل انتصار عام 1967، وإما كارثة هائلة تحدث ليهود الشتات.
لكن الكيان تلقى في لبنان وغزة هزيمتين، الأولى استراتيجية بسبب قتلها الوحشي للأطفال والنساء والصحافيين، والثانية تكتيكية بسبب الضربات التي توجهها المقاومة يومياً للآليات والجنود الإسرائيليين، إضافة للصمود الأسطوري والتضحيات الجسام، والهزيمتان، الاستراتيجية والتكتيكية، ترفعان أرقام الهجرة العكسية، بينما تكثيف الدعاية بشأن تصاعد «معاداة السامية» في الغرب، فإنها لا تحقق نتائج تستحق الذكر أمام «طوفان الهجرة العكسية»، الذي لن يتوقف على مستوى الأفراد والعائلات، وكلما طالت الحرب يتوقع أن ترتفع الأرقام أكثر في ظلّ إنعدام الشعور بالأمان وتعدد جبهات القتال والإسناد.

*قسم الدراسات في الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى