نقاط على الحروف

«إسرائيل» الصغرى بدلاً من «إسرائيل» الكبرى

 

ناصر قنديل

 

لا ترتسم المسارات الاستراتيجية للكيانات والدول والأمم في سطح الأحداث الجارية بتسارع خصوصاً في زمن الحروب، بل هي تترسّب في قاع المحيط الذي تعلوه الأمواج وتؤسس لتحولات في المد والجزر وإيقاع الجاذبية وصولاً الى زلزال أو بركان أو تسونامي. وفيما يتوهّم صانع القرار أنه سوف سينجو من الكارثة ببعض الحذاقة والتذاكي سرعان ما يكتشف أن التاريخ لا يلعب إلا مع الأذكياء ولا يقيم حساباً لجماعات المتذاكين. وما يجري في فلسطين والمنطقة مع نهاية حرب غزة، بل ما سوف يجري، وما هو على وشك أن يبدأ، شيء من هذه المسارات الاستراتيجية الجديدة.

كل حروب “إسرائيل” في المنطقة مهما تعاظمت أهميتها وكبر حجمها، وتحققت فيها انتصارات كبرى أو هزائم صغيرة، تبقى حروباً فرعية في مستقبل كيان الاحتلال، وتبقى فلسطين هي الأصل وحروبها هي الحرب الأصلية، ومقياس النصر والهزيمة فيها وجودي، أي ما فوق الاستراتيجي، وفي ظل حجم التشويش الناشئ على القراءة العلمية بسبب الغبار السياسي والضباب الإعلامي حول الفشل الإسرائيلي في حرب لبنان وحرب اليمن، تبدو حرب غزة وهي تخرج بنصر ناصع بائن لا لبس فيه بمثابة الضربة القاضية في حروب قرّر أصحابها أنهم سوف يربحون فيها بالنقاط، وعدا عن أن فلسطين هي الجغرافيا التي يتقرّر فيها مستقبل الكيان وجودياً، فهي جبهة الحرب التي انطلقت منها الحروب الأخرى وتحت شعار إسناد جبهتها، وفيها وحدها كان واضحاً أن الأميركي والإسرائيلي ومن خلفهما كل قادة الناتو قد رفعوا شعاراً مع بداية الحرب هو اجتثاث المقاومة والقضاء على حماس. ورغم تراجع الكثيرين منهم عن هذا الشعار فقد بقيت واشنطن وتل أبيب تعتبران أنه مقياس تحقيق الحرب لأهدافها. وبكل المقاييس يعترف الأميركيون والإسرائيليون اليوم بأنهم فشلوا، وليس فقط أنهم لم يحققوا نصراً حاسماً كما هو كلامهم عن جبهة لبنان.

الفشل الاستراتيجي في القضاء على المقاومة في غزة، يعيد التحليلات الاستراتيجية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي غداة طوفان الأقصى، حيث الإجماع على خلاصة واحدة قوامها، استحالة التساكن بين استقرار الكيان واطمئنانه الوجودي مع بقاء قوة مقاومة مسلحة على حدود الجنوب أو الشمال، وبعد تعزية النفس بالفشل في تحقيق هذا الهدف شمالاً تحت شعار العازل الذي يمثله جنوب الليطاني تحت سيطرة الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل، والأمل بتحقيق الهدف في الساحة الرئيسية فلسطين، يأتي الفشل أكبر وأعظم في جبهة غزة، ليعيد طرح السؤال الوجودي الذي طرح غداة طوفان الأقصى.

الانقسامات الحالية في الكيان واحتمال اتساع نطاقها مفتوح على المزيد، هي ترجمة لهذا الفشل الوجودي، ووفقاً لما توقعته مجلة الفورين أفيرز الأميركية فإن نهاية الحرب على غزة دون نصر حاسم، تضع “إسرائيل” بين ثلاثة خيارات تلي سقوط حكومة الحرب، الأول تقسيم الكيان بين حكومتين بعد إعلان حكومة مستقلة في المستوطنات، والثاني بقاء الكيان موحداً مع حرب أهلية، بين سكان المستوطنات وسكان المدن الكبرى تدعمهم مؤسسات الكيان الرسمية، والثالث هو الصوملة مع انهيار اقتصاديّ وتسجيل هجرة معاكسة كثيفة تنتج عنها دولة فاشلة من جمهوريات الموز في آخر قائمة دول العالم الثالث.

سبق وقالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون عام 2010 أمام منظمة الأيباك التي تشكل قوة اللوبي الصهيوني في أميركا، أن مستقبلاً قاتماً ينتظر “إسرائيل”، ناتج عن استحالة بقائها دولة ديمقراطية ويهودية في آن واحد، مع السيطرة على كامل فلسطين التاريخية بين البحر والنهر، حيث التوازن السكاني ليس لصالح غلبة يهودية، وحيث الديمقراطية التي توجب منح الفلسطينيين حقوق التصويت سوف تسقط صفة اليهودية عن الدولة. والإصرار على يهودية الدولة سوف يسقط صفة الديمقراطية عنها، وحيث لا فرصة لتعديل التوازن بالرهان على الهجرة التي نضبت مواردها البشرية مع تنافس فاشل في التناسل مع العرب، وصعوبة الحديث عن نصر حاسم في حروب تزداد فيها مكانة الصواريخ، وهذا المستقبل القاتم يقترب بقوة.

مع فشل حروب غزة التي خاضها كيان الاحتلال على جبهات غزة ولبنان واليمن، سقطت “إسرائيل” الكبرى و”إسرائيل” العظمى و”إسرائيل” العظيمة، وصار هناك باب مفتوح لشيء واحد لم يستعد قادة الكيان لتقبله بعد، هو “إسرائيل” الصغرى، والصراع الآن بين رعاة الكيان لإنتاج قادة يقبلون بـ”إسرائيل” الصغرى تحت شعار حل الدولتين، وبين صراع مفتوح يؤسس لفرضيات شرحتها توقعات الفورين أفيرز كلها علامات الأفول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى