الانتصار الساحق لمحور المقاومة والتداعيات الاستراتيجية
د. جمال زهران*
أخيراً… وبعد أكثر من خمسة أشهر (475 يوماً)، تتوقف حالة الحرب والعدوان الإرهابية من الجانب الصهيوني، على غزة العزة والصمود، حيث يتمّ تحقيق أهمّ شروط المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد وأخواتهما المقاومين)، وهي: الانسحاب الكامل للقوات الصهيونيّة من غزة، مع وقف كامل للعدوان، وحرية حركة الفلسطينيين في غزة بين الشمال والجنوب، وانسياب كامل لجميع المساعدات عبر معبر رفح، والبدء في الإعمار، مع تبادل الأسرى بين الجانب الصهيوني والجانب الفلسطيني المقاوم.
إذن، تحقق للمقاومة الفلسطينية، كل أهدافها، وليس بعضها، وأجبر العدو الصهيوني على الانصياع والاستسلام والخضوع لكلّ مطالب المقاومة بقيادة حماس، وسط متغيّرات شديدة على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية. وما كان يرفضه النتن/ياهو وعصابة الحكم في الكيان، منذ أيار/ مايو الماضي (2024م)، وقبل الانتخابات الأميركية التي خسرها الديموقراطيون، يقبله الآن صاغراً، وكأنّ شبح ترامب يظهر في الصورة، والجميع بلا استثناء يخضع ويتراجع! حتى أنّ كتاباً من الصهاينة داخل الكيان، عبّروا عن غضبهم تجاه النتن/ياهو، بالقول، إذا كنت قد قبلت اليوم، ما كان مطروحاً من سبعة أشهر، فلماذا إذن سمحتم بقتل الجنود الصهاينة خلال هذه الأشهر! وهذا يعني فشل النتن/ياهو وحكومته، وأصبحوا غير صالحين للاستمرار في الحكم…
ومن ثم، فقد وصل النتن/ياهو، إلى مرحلة السخرية منه، وأنه أصبح مؤكداً أنه كان يسوّف ويؤجّل، وحتى اللحظة الأخيرة، من أجل نفسه فقط، وتحقيقاً لمصالحه الشخصيّة لتفادي التحقيقات معه في الاتهامات المنسوبة إليه، خشية السجن له ولأسرته! الأمر الذي دفع قاضي التحقيق إلى طلب مثوله أمام المحكمة، بعد أن تأكد له، أنه يتلاعب بقضاة التحقيق، وهو يتمتع بحصانته السياسيّة كرئيس للحكومة، وأجبر على التحقيق، فلجأ إلى التمارض ودخول المستشفى، لاستمرار التلاعب بالقضاء! إلا أنه وصل إلى مرحلة انكشاف أوراقه، وانكشاف أهدافه الخبيثة، حتى أنّ الصهيونية العالمية لم تعد تحتمل ذلك الشخص العدوانيّ، الذي أفقد الكيان الصهيوني، كلّ أوراقه، وأدخله في مربع احتمالية الانهيار الكامل، بدرجة كبيرة، وهو تهديد صارخ لحاضر الكيان ومستقبله، ولذلك قرّرت هذه الصهيونية إخضاعه وإعلان الإدارة الأميركية القديمة (الراحلة)، والجديدة (المقبلة) – بين بايدن وترامب، أنه قد آن الآوان لتوقف الحرب في غزة، كما قرّروها أيضاً بالوقف وإعلان وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية مع حزب الله، على لسان الرئيس الأميركي بايدن وبنفسه، حين أعلن أنه فجر اليوم (27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024م)، بوقف إطلاق النار في لبنان، لتقديم خيار إسقاط سورية وتدمير جيشها وقدراتها العسكرية! ولا يزال النتن/ياهو، مستمراً في خروقه التي تعدّت الألف اختراق وأكثر، ولا تزال…!
أما لماذا قرّرت أميركا، تنفيذاً لتعليمات الصهيونية العالمية، وقف النار على جبهتي لبنان وغزة…؟ فالإجابة الواضحة أنّ الكيان الصهيوني قد تعرّض لهزيمة كبيرة على كافة الأصعدة، وفشل فشلاً ذريعاً في إدارة أزماته. وتعرّض هذا الكيان، إلى التفكك والتصدّع بصورة لم يسبق لها مثيل، كما تعرّض لخسائر بشرية ومادية ضخمة، وتكلفت الإدارة الأميركية نحو 67 مليار دولار، حسبما نشر حتى الآن من معلومات، والخفي أخطر على أي حال! ولذلك أرادت الإدارة الأميركية – الداعمة للكيان أياً كانت هويتها ديموقراطية/ أم جمهورية – إنقاذ الكيان، والتشويش على هذه الهزائم القاتلة، مع فتح الملف السوري، لإشغال الجميع به، إلى حين إنقاذ الكيان من السقوط والانهيار، وبعد ذلك لكل حادث حديث!
نحن إذن أمام مشهد متكامل لإنقاذ الكيان من الانهيار، إنْ لم يكن دوماً فعلى الأقلّ محاولة تأجيل الانهيار لأنه حتميّ، وإنهاء هذا الوجود الصهيونيّ وهو بمثابة الغدة السرطانية في جسد الأمة العربية، التي تستوجب استئصالها، حتى يشفى الجسد العربي والإسلامي، ولا علاج له أبداً. فالاستئصال هو الخيار الوحيد، وتحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، هو الخيار الوحيد أيضاً، ولا تعايش بين استمرار الكيان، وإقامة كيان فلسطيني هزيل كالسلطة الفلسطينية التي تعمل في صالح الكيان وتطيل عمره! بمعنى إما الكيان الصهيوني – وهو مستحيل، وإما الدولة الفلسطينية المستقلة والحرة – وهو ممكن وأضحى على بعد خطوات بإذن الله.
والذين يقولون إنّ المقاومة استسلمت، نقول لهم: خسئتم، وأنتم لا تستحقون عناء الردّ وضياع الوقت، ويمكن الاستشهاد بأنّ مطالب المقاومة تحققت وبلا تراجع عن الرئيسي منها، وبدأنا نرى الثمار، بل إنّ الكيان الصهيوني، ومن خلال العصابة ذاتها (النتن/ياهو) وأعضاء هذه العصابة، هو الذي تراجع، وتكاثفت خسائره، ولعلّ في الأيام العشرة الأخيرة، فإنّ حجم هذه الخسائر البشرية بين (150) قتيلاً صهيونياً ومصاباً خير دليل. وهو الموقف نفسه على الجبهة اللبنانية، فإنّه قد توقف إطلاق النار بعد شهرين من القتال العنيف بين قوات حزب الله، وبين جيش الاحتلال، وبعد أن تكبّد العدو الصهيوني خسائر لا حدود لها (بشرية، ومادية) مع الفشل في تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة من جانبه، وفشل فشلاً ذريعاً في احتلال الجنوب أو القضاء على حزب الله، رغم اغتياله لسماحة السيد/ حسن نصر الله (الاستشهادي المنتصر). وحسبما قال سماحة الشيخ نعيم قاسم، إنّ الخسائر هي التي قادت العدو الصهيوني إلى طلب وقف النار والوصول إلى اتفاق بذلك، إنقاذاً لوجه العدو الصهيوني، والنتن/ياهو وعصابته. والدليل على قول الشيخ نعيم، هو أنّ الأسبوع الأخير قبل وقف النار، كان بمثابة الدمار للكيان الصهيونيّ، حيث لم تتوقف صواريخ حزب الله – التي استخدمت للمرة الأولى، ومداها يتجاوز الـ (200) ك.م، عن ضرب العاصمة (تل أبيب)، ووصلت إلى غرفة نوم رئيس العصابة الحاكمة (النتن/ياهو)! لذلك فإنّ ما قلناه إنّ طلب الصهاينة والأميركان، لوقف النار، كان في إطار محاولة إنقاذ الكيان الصهيوني من الانهيار والتفكيك!
إذن، فنحن أمام مشهد انتصار المقاومة في غزة، ولبنان (جبهة الإسناد الأولى)، وجبهات الإسناد في اليمن – التي استمرّت في مهامها بضرب قلب العاصمة (تل أبيب/ يافا)، وأم الرشراش (إيلات)، حتى وقف نهائي لإطلاق النار في غزة. أما الذين يتحدثون عن خسائر الطرف المقاوم، فإنّ الردّ عليهم بأنّ المقاومين يدركون أنّ خسائرهم ستكون كبيرة (مادياً وبشرياً)، ولكن هكذا يكون ثمن التحرير والاستقلال، فضلاً عن أنه مهما كانت الخسائر ضخمة على الجانب المقاوم، فإنها لم تصل بعد إلى التأثير السلبي على معنويات الشعب الفلسطيني، ولا على درجة صموده الأسطوري، وبسالته، وإنجازاته. كما أنّ المقاومين لم يرفعوا راية الاستسلام. وكما قال سماحة السيد/ حسن نصر الله، «إننا منتصرون عندما ننتصر، ومنتصرون عندما نستشهد». فهذه هي فلسفة المقاومة المستمرة حتى النصر بإذن الله.
أما عن التداعيات الاستراتيجية، لانتصار المقاومة حتى الآن، فهي تتلخص في نقطة رئيسية في هذا المقام، وهي أنّ الهدنات المعلنة في لبنان، وغزة، هي هدنات مؤقتة، وما حدث كان مرحلة استمرّت نحو ما يقرب من (500) يوم، منذ طوفان الأقصى، لم تنكسر المقاومة، ولم يتمّ القضاء عليها، بل ازدادت اشتعالاً، واستمراراً. ومن ثم فإنّ الفشل الاستراتيجي للكيان الصهيوني، يقابله انتصار استراتيجي للمقاومة بكلّ فصائلها ومحورها، وفي الخلفية جمهورية إيران الإسلامية، وهي عمود الخيمة لمحور المقاومة وستظلّ إلى أن تتحرّر فلسطين والقدس. ولذلك فإنّ التداعي الاستراتيجي الأهمّ، هو أنّ كلّ ما تمّ، هو جولة كبرى، ستليها جولة أكبر منها وستكون الحاسمة، في ظلّ معادلات قوة عالمية وإقليمية تتشكل الآن، وستكون داعمة لمحور المقاومة، حتى تحرير فلسطين كاملة، وإنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين، بشكل كامل، خاصة بعد ثبوت أنها أصبحت عبئاً على الاستعمار الأميركي، بل وعلى الصهيونية العالمية. وفي التفاصيل لهذه التداعيات مقالة مقبلة. ويكفي القول في الختام، بأنّ يوم 18 يناير/ كانون الثاني) 2025م، أصبح يوماً لغزة العالمي، سنحتفل به دوماً…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس جمهورية مصر العربية