نقاط على الحروف

خطاب ترامب خريطة طريق لأميركا جديدة

 

 ناصر قنديل

 

– لم تكن الصورة واضحة أمام دونالد ترامب في ولايته الأولى حول كيفية تحقيق حلمه بالانتقال من أميركا العظمى إلى أميركا العظيمة، كما كان متوهما أن حجم التأييد الذي ناله شعبيا لتصفية ميراث حكومة العولمة المالية والعسكرية على حساب الإنتاج والخدمات في الداخل الأميركي، كما قال في خطابات حملته الانتخابية الأولى، يشكل زخماً يكفي للتملص من ضغوط الدولة العميقة في البنتاغون والمخابرات والخارجية وفرق التفكير، حتى وجد نفسه أسير العودة لتنفيذ مقتضيات مشروع العولمة الديمقراطي مع بعض الاستثناءات، لكن كما يبدو كان مأزق مشروع العولمة وتراجع قدرته على تحقيق إنجازات في الداخل والخارج فرصة مزدوجة لترامب، فرصة أولى ليعود إلى الحكم بزخم أقوى مستقوياً بفشل المشروع المعولم الديمقراطي، وفرصة ثانية لإقامة مراجعة ورسم خطط وامتلاك خريطة طريق.

– الخطوة الأولى الواضحة في خطاب ترامب هي تجاهل تسمية الملفات الدولية تقريباً، فهو لم يأت على ذكر حرب أوكرانيا، ولا التحذيرات التقليدية لإيران لعدم امتلاك سلاح نووي، ولا “إسرائيل” والدعم المطلق لتفوقها في المنطقة، ولا التفرغ لمواجهة روسيا والصين، والعبارة الوحيدة التي تذكر فيها الصين كانت عن قناة بنما عندما قال نحن أهديناها لبنما وليس للصين، حتى كاد الخطاب يكون أميركياً داخلياً خالصاً. وهنا تكمن الخطوة الأولى في تعويض المجمع الصناعي العسكري الذي يمثل القوة الضامنة للدولة العميقة عن خيار تشجيع وشن الحروب في الخارج وعائداتها، بالإعلان عن نية إنشاء قبة صاروخية لحماية أميركا من خطر الصواريخ، والمشروع الذي يتضمّن البحث بتقنيات حديثة بعد فشل صواريخ باتريوت ولاحقاً منظومة ثاد، كما ظهر بالفشل بصد صواريخ اليمن على تل أبيب، يقوم على نشر آلاف بطاريات الدفاع الجوي ومستودعات كافية من الذخائر وطواقمها في أنحاء أميركا، مشروع تبلغ كلفته تريليوني دولار على خمس سنوات، لتكون هذه الصفقة هي جوهر المصالحة مع التجمع الصناعي العسكري، بينما الصعود إلى المريخ عنوان مشروع آخر لمصالحة شركات صناعة الصواريخ العابرة للقارات وسباق التسلّح.

– مصالحة مشروع الأمركة مع القوة الحاسمة في مشروع العولمة يمثل نقطة انطلاق لمشروع ترامب لرسم خريطة طريق جوهرها إدراك الحاجة للوقت حتى يستعيد بناء سلاسل توريد محلية وطنية تحل مكان سلاسل التوريد الصينية التي تغذي الاستهلاك الأميركي اليومي، والحاجة إلى خطة إنعاش اقتصادي تملأ هذا الوقت بانتظار أن تكون الصناعة سواء في قطاع السيارات أو سواها قد بدأت تؤتي ثمارها، والانتعاش الفوري في خطة ترامب يعتمد على إطلاق سوق استخراج النفط والغاز الصخري، وتحريره من كل الضوابط كماً ونوعاً، فلا سقوف للإنتاج ولا ضرائب ولا قيود بيئية مع إعلان الانسحاب الثاني من اتفاقيات المناخ. وهذا يعني التمكن سريعاً من تخفيض أسعار الوقود في الأسواق الأميركية، سواء للاستهلاك الفردي أو لدور قطاع النقل في تسعير السلع الاستهلاكية.

– قطاع النفط والغاز الصخري هو حصان القيادة في عربة ترامب فدور هذا القطاع يتجاوز الأسواق الداخلية، وأميركا التي فقدت صناعتها بعد انتقال شركاتها الكبرى الى التصنيع في الصين وكوريا وفيتنام وسواها، سوف تعتمد على تصدير النفط والغاز الصخري بانتظار عودة مصانعها إلى العمل بكامل طاقتها، ولن تبقى أميركا منتجة مستهلكة للنفط دون تصدير بل سوف تدخل السوق العالمية بقوة، والسوق المستهدفة واضحة، هي دول الغرب، والمعادلة بسيطة الحماية العسكرية مقابل شراء النفط والغاز الصخري بدءاً من أوروبا. وبالمقابل على الحلفاء المنتجين للنفط وفي طليعتهم العرب أن يفهموا المعادلة الجديدة، تخفيض الإنتاج بما يتناسب مع امتصاص السوق للكميات الوافدة من السوق الأميركية دون انخفاض الأسعار، والامتناع عن منافسة النفط والغاز الصخري الوافدين من أميركا، أي الابتعاد عن أوروبا كسوق، والمعادلة بسيطة أيضاً، الحماية مقابل الانضباط بسياسة نفطية تخدم المصالح الأميركية، وقواعدنا ليست مجاناً.

– في خطة ترامب لا توسّع في الجغرافيا العالمية بل في الجغرافيا الإقليمية، وأميركا تتسع لكندا وبنما وغرينلاند، لعل المراقب سينتبه أن حل الأزمات الاقتصادية سوف يتم على حساب الحلفاء وأن التوسع سوف يتم على حساب الحلفاء، أي أن ما يجري هو تسليم باستحالة تعظيم النفوذ المشترك للغرب الجماعي وتوسيع الخرائط لصالحه وإعادة اقتسام العائدات وفق صيغة رابح رابح، والبديل هو إعادة توزيع العائدات ورسم الخرائط داخل المجموعة الغربية نفسها وفق صيغة رابح واحد وخاسرون كثر عليهم الاستعداد لحرب جمركية تشنها واشنطن انطلاقاً من تدفيع الحلفاء ثمن نهوضها الجديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى