الفجر المؤجل… والهدف المرتجى
د. سلوى الخليل الأمين
بالأمس كانت حمص بوصلة الفجر الواعد بالأمن والآمان. بالأمس عاد السوريون أطفالاً ونساء وشيباً وشباباً إلى التراب الغالي، يفتشون في ذرّاته عن حب الوطن الذي صادرته عصابات الخونة والعملاء. بالأمس حمل الأطفال أشياءهم الغالية من بيوتهم الأغلى وتنفّسوا الصعداء لعودة مظفّرة إلى حضن الوطن.
هو الوطن، المتلألئ كدمعة الحب في السراء والضراء، هو شغف القلب الممتلئ بخيارات العمر وتوهّجات السنين، هو مساحات الخواطر التي لا تنطفئ حتى لو تشابكت سيوف الأرض كلها لطمس معالمه ومشهدياته والحنين.
لذلك يبقى الوطن العنوان الكبير والهوية الثمينة التي لا تضاهيها كنوز المناجم الممتلئة بالألماس والياقوت والنفط والغاز والذهب والفضة المبلولة بغضب الأولين والآخرين.
بلى، يبقى الوطن الفجر الصاعد من بين الركام، ويبقى ناسه الشرفاء هم الأولون والآخرون في حركة المقاومة والنضال، حين يصبح الفجر مؤجلاً، والأمل المرتجى محفوفاً بالأخطار.
فلطالما بحثنا عن الوطن، ولطالما حملناه طفلاً ويافعاً وأسكنّاه أشفار العيون، ولطالما التصقنا به متدثّرين عوالمه الآمنة، ورؤاه المسبوكة على آفاق الدروب تفاعلاً مع الحاضر والماضي والمستقبل، بجميع مضامين تطوّراته الآيلة إلى رغد العيش، ورفض الشرّ وامتهان العمالة والخيانة، واعتماد الحوار الوطني البنّاء لغة سلام بين أبناء عائلته الكبرى، المكوّنة من شعبه العظيم، الذي حمل إلى العالم أبجدية الحضارات الملوّنة بألف لون ولون.
ربما تصحّ المقارنة بين وطن وآخر: وطن يفديه بنوه بالروح والدم ومختلف مستلزمات الحياة لترسيخ سيادته وحريته واستقلاله وكرامته، ووطن يجعله أهله وطن الطوائف والمذاهب ورؤساء المحاور الذين لا يتورّعون عن قتل الأبرياء وتدمير المؤسسات والمدن الآمنة، تنفيذاً لغايات شخصانية أو مذهبية جاهلية، في حين يفترض بالجميع رفع شعار مقاومة العدو الصهيوني توصلاً إلى تحرير فلسطين من رجس بني صهيون.
المقارنة هنا أردتها صورة واضحة المعالم، تمتدّ من سورية الوطن، الشقيق المنكوب بحرب كونية، إلى لبنان الوطن المعافى من حرب أهلية لا تزال آثارها تغلّ في شرايين الحياة، حيث الواجب الوطني يفرض علينا التشبّه بالأحسن والأفضل من النظم السياسية التي تنتج أوطاناً قابلة للتطوّر والعطاء والصمود والتصدي، حتى إبان المؤامرات الدولية الحارقة والمارقة، مثل التي تتعرّض لها سورية منذ ثلاث سنوات ونيّف.
لذلك تجوز المقارنة لأجل المصلحة العامة، ففي سورية يعلو الوطن فوق الاعتبارات كلّها، والدولة بكامل مؤسساتها الرسمية والخاصة لا تزال قادرة على الصمود في وجه الأعداء الآتين إليها من الجهات الحدودية الأربع. أما في لبنان فلا أثر للوطن ولا لمقوّمات صمود أبنائه الذين يقفون أمام أبواب السفارات بالطوابير طلباً للهجرة، في الوطن الذي أصبح وطناً للعشائر الطائفية والسياسية المتحكّمة في مسار الدولة التي قزّموها حين جعلوها كريشة في مهبّ الريح.
في سورية وحدة وطنية ثابتة، لا تفاوض على مسار الوطن وعروبته وقوميته، ولذلك لم تغلبها شياطين الأمم المتكالبة عليها عبر الحرب الكونية التي دمّرت البشر والحجر فيها، وفي لبنان لا وجود لدولة القانون بل لاجتهادات من هنا وهناك، تمدّد لهذا، وتعيّن ذاك، وتصفّق لمحكمة جائرة لا نعرف كيف خطط لها وكيف أبصرت النور وكيف تتمّ الموافقة على تمويلها من عرق الناس وجيوبهم الخاوية؟ وتهمل من له الحق في تولي رئاسة البلاد بحسب الشرائع النيابية القائمة على حجم التكتلات النيابية، مع كلّ هذا التناقض القائم في ممارسة السلطة والتشريع، يتمّ التغني بالحرية والديمقراطية المجلّلة بالمدّ الطائفي والمذهبي والعشائري والقبلي والمناطقي، فمن يتقرّب إلى الزعيم يحظى بكامل التقديمات والتسهيلات التي توفر له مستلزمات العيش المتأتية من حظوة الرتب والرواتب والمواقع المتقدمة، أما من يسلك طريق الوطن والانتماء إليه فهو الخاسر الأكبر، علماً أنّ من يدعي الوطنية ملتزم على عينك يا تاجر بحلفاء من خارج الحدود، والآخر يقوم بالفعل نفسه، وكلاهما في الفساد سواء بسواء، أما الخاسرون والمنكوبون والمدمّرون في كراماتهم وخزائن بيوتهم ولقمة عيشهم وهجرة أبنائهم، فهم الواقفون على خطوط التماس في انتظار قيامة الوطن… الوطن.
الغضب يسكن النفوس المتآلفة حكماً مع الوطن، والسبب هو التطلع إلى الوطن القريب سورية، التي عرفت رغم نكبتها العظيمة وحربها المدمّرة كيف توفر مستلزمات الحياة كلّها لشعبها الصامد، أما دولتنا العلية في لبنان فعرفت كيف تقهر مواطنيها في أيام السلم كما في أيام الحرب، بالغلاء والفساد وسرقة جيوب المواطنين عبر دفع الفواتير والضرائب اللامعقولة على الطبقات الكادحة وإعفاء المصارف ورجال الاقتصاد منها أو مساواتهم بأصغر موظف أو عامل في الوطن يملك راتباً لا يسمن ولا يغني من عوز ومرض، علماً أننا قد نصل يوماً إلى محاسبة الفقراء على تنشقّهم هواء لبنان العليل وحرمانهم منه بلا إذن مسبق، لذا ربما لا يهتمّون بصون الغابات والأحراج التي تحوي الأشجار المعمّرة من الحرائق، ولا يحرصون على طبيعة لبنان الخلابة، كنزه الثمين وثروته السياحية الحقيقية.
هنا تصحّ الصرخة بالفم الملآن: آخ يا بلدنا… فالمواطن اللبناني ما زال يفتش عن الوطن في سائر المطارح، في أسلاك الهواتف الثابتة والنقالة التي تحمل أصوات الأبناء المهاجرين، والأحفاد الذين لا صلة لهم بالوطن، بحكم اللغة الجديدة التي يتكلمونها، والحضارة الجديدة التي يتلقّونها، والمساحة الأمنية التي يتمتعون بها، ووسائل العيش اللائق والكريم المتوافر لهم، والقانون الذي يحميهم، والكرامات المصونة في قوالب من ذهب، حيث لا فرق بين مواطن وآخر إلاّ بما يقدم إلى الوطن الجديد من خدمات وإبداعات. لذلك يبدو أنّ طلوع الفجر في لبنان مؤجلاً، وبزوغ الهدف المرتجى يتأرجح في كواليس المواقع السياسية المختومة بتواقيع الناس، والدولة القادرة المقتدرة التي تؤمّن متطلبات الموظف والعامل وخريجي الجامعات والشابات الواقفات على أبواب الزواج والحلّ المنتظر ما زالت أملاً بعيد المنال.